قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن جريج حدثني سليمان -يعني ابن عتيق - عن طلق بن حبيب عن الأحنف بن قيس عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وعلى آله سلم أنه قال: (ألا هلك المتنطعون، ثلاث مرات)].
أورد المصنف حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً) أي: كررها ثلاثاً، والمتنطعون: هم المتكلفون المتعمقون، وقد أورده هنا في لزوم السنة؛ لأن فيه مخالفة للسنة، ويدخل في ذلك أهل الكلام الذين يتعمقون في الكلام، ويشتغلون به، ويعولون عليه في عقائدهم، ويهجرون السنن ولا يعولون عليها، فهؤلاء هم المتنطعون، أي: المتعمقون المتكلفون الذين يعولون على العقول ولا يشتغلون بالنقول، أو يتهمون النقول إذا لم تتفق مع العقول، والأصل: هو النقل، والعقول السليمة توافقه، فالعقل الصحيح -العقل السليم- لا يخالف النقل الصحيح، ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب اسمه: (درء تعارض العقل والنقل)، وأهل الكلام يعولون على العقول ولا يعولون على النقول، وأهل السنة يعولون على النقول ويعتبرون أن العقول إذا كانت سليمة فإنها لا تخالف النقول، وإذا وجد من العقول شيئاً يخالف النقول فإنه لا يلتفت إليه، ولا يعول عليه، ولهذا فإن العقول تتفاوت، وقد يرى الإنسان في وقت من الأوقات رأياً ثم في وقت آخر يتعجب هذا الرأي، مع أنه في حال رؤيته ذلك الرأي لا يرى أمامه سواه، ثم يتغير حاله، فيرى أن الرأي الذي رآه سابقاً غير صواب، ويتعجب كيف رأى هذا الرأي! ومن أمثلة ذلك ما حصل في صلح الحديبية، فلما أُُبرم العقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، كان من جملة ما اشتمل عليه العقد: أن من جاء من المسلمين إليهم فلا يرد، ومن جاء من الكفار مسلماً فإنه يرد، فتأثر بعض الصحابة رضي الله عنهم من هذا الذي رضي به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: (كيف نعطي الدنية في ديننا)، وكانت النتيجة بعد ذلك أن الذين أسلموا فروا من الكفار، -والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبلهم بناءً على هذا الصلح، وهم لا يريدون أن يرجعوا إلى الكفار- وساروا في طريق على ساحل البحر، فكانوا يعترضون العير التي تأتي لقريش، فعند ذلك تأذى الكفار من هذا الفعل حتى رغبوا هم أنفسهم أن الرسول يقبل هؤلاء حتى لا يبقوا على هذا الوضع الذي هم عليه، مع أنهم هم الذين اشترطوا هذا الشرط ابتداء، فمحل الشاهد: أن بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم تأثر من هذا العمل، وكانت النتيجة خيراً؛ ولهذا كان بعض الصحابة عندما يحصل شيء يستدل بهذه القصة، فيقول: (اتهموا الرأي في الدين)، قال ذلك سهل بن حنيف رضي الله عنه في إحدى المواقع التي حصلت بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، وحصل على إثرها التحكيم، فكان بعض الناس الذين مع علي رضي الله عنه يريدون أن يواصلوا القتال وكان سهل ممن يرى أن يُترك القتال حقناً للدماء ويقول: يا أيها الناس! اتهموا الرأي في الدين، ويشير إلى قصة الحديبية.
فالعقول متفاوتة، بل إن عقل الإنسان بين حين وأخر يتغير من رأي إلى رأي، ومن حال إلى حال، فالأصل هو النقل، والعقل الصحيح لا يخالف النقل، والعقل إذا كان مخالفاً للنقل فإنه لا يلتفت إليه، وإنما يكون التعويل على النقل، وهذه هي طريقة أهل السنة والجماعة، فإنهم يعولون على النقل ويتهمون العقل، وهذا بخلاف أهل البدع فإنهم يعولون على العقل ويتهمون النقل.
يقول الخطابي: وفيه دليل على أن الحكم يكون بظاهر الكلام، وأنه لا يترك الظاهر إلى غيره ما كان له مساغ، أقول: هذا هو الأصل.