وأورد أبو داود رحمه الله باب: شرح السنة، والمقصود بذلك بيان وإيضاح المراد بالسنة، وقد جاء في حديث معاوية بيان أن المقصود بالفرقة الناجية التي هي واحدة من ثلاث وسبعين فرقة، والتي هي في الجنة، أنها الجماعة، وهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فالمقصود بقوله: شرح السنة، أي: بيان وتوضيح السنة.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة)، وهذا الحديث يدل على حصول الافتراق في الأمم السابقة من اليهود والنصاري، وأنهم فرق شتى، ونحل متعددة، وأن هذه الأمة سيحصل لها مثل ما حصل لهم، وأنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، فرقة واحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار، أي: أنها مستحقة لدخول النار، وهذا الحديث فيه الإخبار عن أمور مغيبة، ففيه الإخبار عن أمور مضت، وأمور مستقبلة، فالأمور التي مضت هي افتراق اليهود والنصارى إلى هذه الفرق الكثيرة، والأمر المستقبلي هو افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، ولا ينجو منها إلا فرقة واحدة، وهذه هي الفرقة الناجية، وهي الجماعة، أي: جماعة المسلمين الذين كانوا على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهجه وطريقته، واثنتان وسبعون فرقة مخالفة لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم ليسوا كفاراً، بل هم مسلمون، ولكنهم مستحقون للعذاب، وأمرهم إلى الله عز وجل، فمن شاء أدخله النار، ولكنه لابد أن يخرج منها؛ لأنه لا يبقى فيها أبد الآباد إلا الكفار، ومن شاء الله تعالى أن يعفو عنه عفا عنه وأدخله الجنة ولم يدخل النار، ومن دخلها فإنه لابد وأن يخرج منها، وهذه الفرق هي من أمة الإجابة، فهم مسلمون، ولكن عندهم بدع وأهواء ومخالفات، فهم يستحقون بسببها النار كما ذكرنا سابقاً، ولا يسلم من عذاب الله ويدخل الجنة من أول وهلة إلا فرقة واحدة وهم الجماعة، وهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وهذا الحديث من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، فإن فيه إخباراً عن أمور ماضية وعن أمور مستقبلة، وقد وقعت تلك الأمور المستقبلة، طبقاً لما أخبر به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فهو من الأحاديث المشتملة على علامة من علامات نبوته وهو الإخبار عن أمر مغيب.
قوله: [(وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة)]، المراد بذلك أمة الإجابة؛ لأن أمة الإجابة هم المسلمون الذين دخلوا في الإسلام، وفيهم من هو سالم من البدع، وفيهم من هو واقع في البدع، والأكثرون هم الواقعون في البدع، وهم مستحقون للنار، وأمرهم إلى الله عز وجل، وأمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أمتان: أمة دعوة، وأمة إجابة، فأمة الدعوة هم الإنس والجن، وذلك من حين بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، أي: أن الدعوة موجهة إليهم، فهم مكلفون ومطالبون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن دخل في دينه، وآمن به، واتبع ما جاء به فقد سلم، ومن أعرض ولم يدخل فيما جاء به من الدين الحنيف فإنه يكون كافراً، ومآله إلى النار، ولو كان تابعاً لنبي من الأنبياء السابقين؛ لأنه ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم خُتمت الرسالات، وتعين على كل من جاء بعد بعثة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن يدخل في دينه، وإلا فليس أمامه إلا النار، ويكون كافراً من الكفار؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، فقوله في هذه الحديث: (لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصران) المراد به أمة الدعوة؛ لأنه ذكر اليهود والنصارى فيها، واليهود والنصارى هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم مدعوون ومطالبون بالدخول في دينه، ومن أبى ولم يدخل في دينه فهو كافر، وليس له إلا النار خالداً مخلداً فيها أبد الآباد ولا ينفعه أن يقول: إنه تابع لموسى إذا كان يهودياً، أو إنه تابع لعيسى إذا كان نصرانياً؛ لأن تلك الرسالات قد انتهت ونسخت ببعثة نبينا محمد عليه الصلا والسلام، فشريعته ناسخة لجميع الشرائع، ولا يقبل الله من أحد ديناً سوى الدين الذي جاء به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، نعم ينفعهم قبل أن يبعث النبي عليه الصلاة والسلام أن يتبعوا موسى ويسيروا على طريقته، أو أن يتبعوا ما جاء به عيسى، فهم على حق في ذلك الوقت، وأما بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينفع أحداً أن يدعي أنه تابع لموسى أو عيسى، بل لا بد أن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وإلا كان كافراً ليس أمامه إلا النار.
وعلى هذا فالأمة أمتان كما ذكرنا سابقاً: أمة دعوة، وأمة إجابة، فأمة الدعوة هي التي جاء ذكرها في حديث: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة)، وأما أمة الإجابة فهي التي ذكرت في حديثنا هنا، وهو (إن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة: اثنتان وسبعون فرقة في النار، وواحدة في الجنة).
وقد جمع الله عز وجل بين الأمتين، وبين أن الدعوة موجهة إليهم على سبيل العموم، وبين من كان موفقاً للدخول في الإسلام، وذلك في قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، فقوله: (والله يدعوا إلى دار السلام) فيه حذف المفعول، أي: فكل الناس مدعوون إلى دار السلام، فليس هناك تفريق بين الناس في ذلك؛ ولهذا أثبت الله لنبيه صلى الله عليه الهداية العامة، وهي: هداية الدلالة والإرشاد فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، فالرسول صلى الله عليه وسلم دل وأرشد إلى الطريق المستقيم، وأوضح ذلك الطريق غاية الإيضاح؛ حتى يوصل إلى الله عز وجل، فمن أخذ به سلم، ومن أعرض عنه خسر، وهذا الإرشاد والبيان موجه إلى كل أحد من أمة الدعوة، ثم قال: ((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))، وهؤلاء هم الذين وفقوا للدخول في الإسلام، وهداهم الله إلى الصراط المستقيم، ((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) منهم من هو على الجادة المستقيمة، ومنهم من عنده خلل، ولكنهم كلهم لا يخلد أحدٌ منهم في النار، وهذا قد بيناه سابقاً.