قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا الفضل بن دكين حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن هلال بن خباب أبي العلاء قال: حدثني عكرمة قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا -وشبك بين أصابعه- قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)].
أورد أبو داود حديث ابن عمرو من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا -وشبك بين أصابعه-).
فكون الناس تخف أماناتهم ولا يؤتمنون وكذلك العهود لا يوفون بها فهذه من فتنة المحيا.
قوله: [(مرجت عهودهم)].
يعني: أنهم كلهم على عدم الوفاء بالعهود، وكذا عدم الأمانة، فكلهم اختلطوا وصاروا بهذه الطريقة.
قوله: [(قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك)].
يعني: ابتعد عن الفتن.
قوله: [(واملك عليك لسانك)].
يعني: لا تتكلم بما لا ينبغي، فلا تكون سبباً في الفتنة لا بقول ولا بعمل.
قوله: [(وخذ بما تعرف ودع ما تنكر)].
يعني: ما عرفت أنه حق فخذ به، وما عرفت أنه منكر فدعه وابتعد عنه.
قوله: [(وعليك بأمر خاصة نفسك)].
يعني: اجتهد في خلاصك، ولا تهلك مع من هلك، كما جاء عن بعض أهل العلم أنه قال: لا يغتر الإنسان بطريق الشر ولو كثر السالكون لها، ولا يزهد عن طريق الخير وإن قل السالكون لها، فليس العجب ممن هلك كيف هلك وإنما العجب ممن نجا كيف نجا، لأن الهالكين كثيرون، والله تعالى يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
فالهلاك هو الغالب، ولهذا لا يستغرب حصول الهلاك، وإنما العجب من النجاة؛ لأن الناجين قليلون بالنسبة للهالكين، فليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا، فلا يزهد الإنسان في طريق الخير لقلة السالكين، ولا يغتر بطريق الشر لكثرة الهالكين، فالإنسان يحرص على أن يكون من القليل الناجي ويحذر أن يكون من الكثير الهالك.
قوله: [(وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)].
يعني: حيث لا يجدي ولا يفيد عملك معهم شيئاً، أما إذا كان مفيداً، وينتفع الناس بالنصح والأمر والنهي فلا يعدل عنه.
قوله: [(جعلني الله فداك)].
الصحابة رضي الله عنهم يفدون الرسول صلى الله عليه وسلم بأرواحهم وبآبائهم وأمهاتهم، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وبالنسبة للتفدية بالآباء والأمهات -أي قول: فداك أبي وأمي- هذا ما يعرف أنه قيل إلا في حق الرسول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعز من الآباء والأمهات، وأحب إلى الناس من آبائهم وأمهاتهم؛ لأن النعمة التي ساقها الله للمسلمين على يديه أعظم وأجل نعمة، ولهذا كانت محبته يجب أن تكون فوق محبة الآباء والأمهات، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
لكن كونه يفدي بنفسه لشخص آخر قد يكون جائزاً، لأن من الناس من يكون بقاؤه خيراً للإسلام والمسلمين، فذهاب من دونه وفقدانه أهون من ذهاب من كان في هذه المنزلة، لكن قضية التفدية بالآباء والأمهات هذه غير معروفة إلا في حق الرسول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(عليك بخاصة نفسك)] يعني: اجتهد في خلاص نفسك، فلا تهلك مع من هلك.
يقول صاحب العون: وفي هذا رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كثر الأشرار، وضعف الأخيار.
لكن كثرة الأشرار وقلة الأخيار هذا هو الأصل، وسنة الله في خلقه أن الهالكين هم الكثيرون، وأن الناجين هم القليلون، فلو ترك الأمر لقلة الأخيار وكثرة الأشرار فمعناه أنه يترك نهائياً، ولكن المقصود: حيث لا يجدي الأمر والنهي، أو يحصل به مضرة على الإنسان.
وقد ورد التشبيك بين الأصابع في مقام المدح والثناء في حديث المؤمن للمؤمن، وجاء هنا في جانب الذم، ففيه الإشارة إلى الاختلاط والامتزاج، وأنهم كلهم بهذه الطريقة، ففي جانب المدح كالبنيان: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه)، وهؤلاء مرجت عهودهم وأماناتهم فصاروا هكذا في اختلاطهم وامتزاجهم، كما تمتزج الأصابع في بعضها البعض عند التشبيك، وهؤلاء كذلك تداخلوا وامتزج بعضهم ببعض، وصاروا على قلب رجل واحد، وعلى وجهة واحدة وهي عدم الوفاء بالعهود وعدم أداء الأمانات.