قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد ح وحدثنا عمرو بن عون أخبرنا هشيم المعنى، عن إسماعيل عن قيس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:105]، قال عن خالد: وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)، وقال عمرو عن هشيم: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب)].
أورد أبو داود حديث أبي بكر رضي الله عنه، الذي قال فيه: إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].
وبعض الناس قد يفهم منها ترك الأمر والنهي، ولكن أبا بكر رضي الله عنه بين أن هذا وضع لها على غير موضعها، وأن هذا إنما يكون إذا حصل منه الأمر والنهي، وأدى الواجب الذي عليه، ثم بعد ذلك لا يضره من ضل.
وأما ألا يحرك ساكناً، ولا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر فإن ذلك يضره، ولهذا جاء في الآية قال تعالى: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))، ولا شك أن من جملة الاهتداء أن يكون الإنسان يهدي ويرشد غيره إلى الصواب والحق والهدى، وذلك عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآية تشعر وتشير إلى هذا الذي ذكره أبو بكر رضي الله عنه، وهو قوله: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))، فإنه ليس المقصود بذلك أن الإنسان يكون على استقامة ولا يحرك ساكناً، ولا يعنى بهداية وإصلاح الناس، ويتركهم على ما هم عليه من المنكرات، بل إن مقتضى الاهتداء أن يكون أيضاً هادياً كما كان مهتدياً، وهذا من الاهتداء كونه يهدي غيره فتعود منفعته عليه، وذلك بأن يؤجر بمثل أجور من استفاد خيراً بسببه، ومن اهتدى بسببه فإن الله تعالى يثيب المهتدي الذي اهتدى على يديه ويثيب من كان سبباً في هدايته بمثل أجره، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
وعلى العكس من ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: (ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً).
وعلى هذا فالآية الكريمة لا تفهم على أن الناس يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهم إذا كانوا مهتدين لا يضرهم ضلال من ضل، بل الأمر إنما هو مبني على أنهم إذا أمروا ونهوا فلم ينتفع بأمرهم ونهيهم فعند ذلك لا يضرهم ضلال من ضل إذا كانوا مهتدين.
قوله: [قال أبو بكر رضي الله عنه بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:105]، قال عن خالد: وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)].
وهذا يبين أن الآية ليس المقصود بها ترك الأمر والنهي، وإنما المقصود بها الأمر والنهي، وأنهم إذا تركوا الأمر والنهي فإنه يوشك أن يعمهم العقاب بسبب المعاصي، وذلك العقاب لا يخص من كان عاصياً، بل يصيب العاصي وغير العاصي، كما قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، فتصيب الظالم وغير الظالم، وكما في الحديث الذي فيه (أنه يخسف بهم، وقال: إنهم يبعثون على نياتهم).
[وقال عمرو عن هشيم: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لايغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب)].
وهذا أيضاً يبين أن تكون المعاصي في قوم يقدرون على أن يغيروا ولم يغيروا، فإن الله يعمهم بعقاب أو بعذاب.
إذاً: فقوله: (وهم يقدرون على أن يغيروا) ليس معنى ذلك أن الإنسان يترك الأمر والنهي ويقول: لا يضرني من ضل إذا اهتديت، فهذا هو الذي جعل أبا بكر رضي الله عنه يبين أن المقصود بها: لا يضره بعد قيامه بما أوجب الله عليه، أما وهو لم يقم بما أوجب الله عليه فإنه آثم، لتركه الأمر والنهي.