قال المصنف رحمه الله تعالى: [أول كتاب الملاحم.
باب ما يذكر في قرن المائة.
حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة رضي الله عنه فيما أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها).
قال أبو داود: رواه عبد الرحمن بن شريح الاسكندراني لم يجز به شراحيل].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب الملاحم، والملاحم جمع ملحمة وهي المقتلة الكبيرة، والمراد به الاقتتال الذي يكون بين المسلمين وبين أعدائهم من الروم وغيرهم، وسميت ملاحم لالتحام الناس فيها بعضهم ببعض في الاقتتال، وكثرة القتل، فلهذا قيل لها الملاحم.
وأورد أبو داود بعد ذلك باباً في قرن المائة، يعني ما جاءت به السنة من بيان أن الدين يكون تجديده على رأس كل مائة سنة، وأن الله يهيئ لهذه الأمة من يجدد لها دينها، وذلك ببيان الحق، ودفع الباطل، ونصر الحق وأهله، والدفاع عن السنة وأهلها.
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) أي: أن الله يهيئ العلماء والولاة الذين يقومون بإظهار الحق ونشره وبيانه، ودحض الباطل والقضاء عليه، والمقصود بذلك تجديد ما اندرس من الدين، وإلا فإن الدين وافٍ وكامل، فالمقصود تجديد ما اندرس منه بسبب ما حصل من فتن وضلالات وانحراف عن الجادة، فيهيئ الله من أهل العلم من يقوم ببيان الحق ونصرته والذب عنه، ومن يقوم ببيان الباطل والتحذير منه وبيان ضرره وخطره، وهذا من فضل الله عز وجل على هذه الأمة أن يهيئ لها من يقوم بنصرة الدين، فلا يمضي قرن من القرون إلا ويهيئ الله من يقوم بنصرة الدين، وهذا يدل على أن الأرض لا تخلو لله من قائم بحجته، وأن هذا الدين منصور وأهله منصورون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله).
ولا شك أن المجددين موجودون، وهم على علم بالكتاب والسنة، وعلى بصيرة بالحق والهدى، وليس عندهم انحراف في العقيدة ولا في مخالفة السنة والعدول عنها، فهم متمسكون بها وداعون إليها، وليس كل من يدعى أنه من المجددين يسلم له، وبعضهم لا شك أنه مسلم به مثل عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، والشافعي على رأس المائة الثانية، ولكن لا يسلم بكل من يدعى أنه من المجددين، فإن بعض الناس يذكر مجددين على مشربه وعلى طريقته ولو كانوا من أهل البدع والانحراف، أو كانوا معروفين بعدم التوفيق للحق في باب أسماء الله وصفاته، وذلك من المشتغلين بعلم الكلام، فمثلاً أبو الأعلى المودودي له كتاب اسمه (المجددون في الإسلام) وجعل من المجددين الجويني والرازي والباقلاني! فهؤلاء هم المجددون عنده، ولم يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ولا ابن القيم ولا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مع أنه لم يذكر المجددين في كل سنة، فقد ذكر المجددين في رأس المائة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، ثم انتقل إلى التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرةَ والثالثة عشرة، ولا شك أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه مجدد في زمانه، وقد نفع الله به، وأظهر الله الحق على يديه، ولا تزال آثار دعوته ونصحه وتجديده لما درس من الدين موجودة، وقد مضى على موته أكثر من مائتين سنة.
فالشيخ محمد بن عبد الوهاب وقبله وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم من أعلام الهدى، ومن أئمة الهدى، وممن أظهر الله بهم الحق، وقمع بهم البدع، ولا تزال آثارهم ماثلة وموجودة نراها ونشاهدها في تلك المؤلفات الواسعة التي فيها بيان الحق وتوضيحه، وقمع الباطل ودحضه.
هذا ولا مانع من وجود أكثر من مجدد في رأس كل مائة سنة.
[قال أبو داود: رواه عبد الرحمن بن شريح الاسكندراني لم يجز به شراحيل].
معناه أنه حذف واسطتين وهما أبو علقمة وأبو هريرة، وهذا الإسناد يسمى معضلاً؛ فسقوط اثنين فأكثر من الإسناد بشرط التوالي يقال له: معضل.