إن الله تعالى هو المتفرد بعلم الغيب، إذ لا يعلم الغيب على الإطلاق إلا الله سبحانه وتعالى، وغيره لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على كثير من الغيوب، ولكنه لم يطلعه على كل شيء، وإنما أطلعه على ما شاء من الغيب، كما قال عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26 - 27]، وعلى هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب على الإطلاق، وإنما الذي يعلم الغيب على الإطلاق هو الله وحده سبحانه وتعالى، ولا أحد يشاركه في ذلك، كما قال عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم من الغيب ما أطلعه الله عليه وما لم يطلعه عليه فإنه لا يعلمه، وسواء كان ذلك في الأمور المستقبلة، أو الأمور التي كانت موجودة في زمانه صلى الله عليه وسلم، فمما هو موجود وحصل في زمانه، ولم يطلع عليه: قصة الإفك، وكون النبي صلى الله عليه وسلم رميت زوجته أم المؤمنين بالإفك ولم يعلم أنها بريئة، ولهذا كان يأتي إليها ويقول: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه)، ولو كان يعلم الغيب من أول وهلة لما شاع الخبر، ولقال: هذا غير صحيح أنا أعلم الغيب وما حصل شيء من هذا؛ ولكنه لم يعلم الحقيقة إلا بعد أن أنزل الله عز وجل عليه الوحي الذي يتلى في سورة النور.
وكذلك قصة العقد الذي فقد لـ عائشة وقد جلسوا تلك الليلة يبحثون عنه ولم يرتحلوا، والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل من يبحث عنه، وبعد أن أصبحوا وليس معهم ماء أنزل الله التيمم فتيمموا، ولما أرادوا الارتحال وأثاروا الإبل إذا بالعقد تحت الجمل الذي تركب عليه عائشة، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب لعرف مكان ذلك العقد، ولم يجلس الناس تلك الليلة يبحثون، ولم يرسل أحداً يبحث عنه، وإنما قال: استخرجوه من تحت البعير الذي تركب عليه عائشة.
وكذلك قد ذكر أنه يذاد أناس عن الحوض يوم القيامة وفيهم من هو من أصحابه، ولكنه ارتد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ومات على أيدي الجيوش المظفرة التي بعثها أبو بكر رضي الله عنه لقتال المرتدين، قال عليه الصلاة والسلام: (فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) فلو كان يعلم الغيب لذكر أسماء الذين سيرتدون من أصحابه ويذكر فعلهم، وإنما كان يعرف أنهم مسلمون وأنهم من أصحابه، وقال: (أصحابي أصحابي) لما حصلت الذيادة عن الحوض، فقيل له: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).
والله تعالى أمر نبيه أن يبين أنه لا يعلم الغيب بقوله: (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود:31]، وقال الله عز وجل في سورة الأعراف: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]، فعلم الغيب على الإطلاق إنما هو من خصائص الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم من الغيوب ما أطلعه الله عليه، وأما الغلو فيه وزعم أنه يطلع على الغيوب، فهذا غير صحيح على الإطلاق، وإنما يعلم ما أطلعه الله عز وجل عليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً، فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه)].
يعني: حفظه من حفظه من أصحابه، ونسيه من نسيه منهم.
قوله: [(قد علمه أصحابه هؤلاء)].
يعني: كانوا موجودين في وقت تحديث حذيفة بالحديث.
قوله: [(وإنه ليكون منه الشيء فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه)].
أي: ما وقع فإنه يذكره عند وقوعه، كما أن الإنسان يذكر من غاب عنه ثم لقيه، وكذلك تلك الأخبار التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معلومة في أذهان من عرفها ومن علمها، فإذا وقعت طبقاً لذلك الخبر، تذكر ذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار الذي وقع مطابقاً للخبر، فصار مثل الرجل الذي كان يعرف إنساناً قد غاب عنه مدة، ثم لقيه فتذكره.