قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حلق الرأس.
حدثنا عقبة بن مكرم وابن المثنى قالا: حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن أبي يعقوب يحدث عن الحسن بن سعد عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال: ادعوا لي بني أخي، فجيء بنا كأنا أفرخ فقال: ادعوا لي الحلاق.
فأمره فحلق رءوسنا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في حلق الرأس.
أي: حلقه في غير حج ولا عمرة، وأما فيما يتعلق بالعمرة والحج فإنه قد جاء ذلك مع تفضيل الحلق على التقصير، وذلك أن الحلق فيه ترك الشعر كله لله مع حصول الرغبة فيه من بعض الناس، ولهذا صار أفضل وأولى من التقصير، ولهذا أيضاً دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاث مرات وللمقصرين مرة واحدة؛ لأن المقصرين احتفظوا بشيء من شعرهم الذي يرغبون فيه ويحبون أن يبقوا عليه، وأما أولئك فتركوه من أجل الله كاملاً وأزالوه ولم يبقوا منه شيئاً، فصار أولئك أفضل من هؤلاء فدعا لهم ثلاث مرات، وهؤلاء دعا لهم مرة واحدة.
والترجمة التي هنا إنما هي في غير الحج والعمرة، وذلك أن إبقاء الشعر سائغ وحلقه وتقصيره سائغ، وكل ذلك جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما استشهد جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة أمهلهم ثلاثة أيام، يعني: لم يأتهم وجعل لهم أن يبكوا في هذه الأيام؛ لأن البكاء سائغ ودمع العين سائغ وإنما المحذور هو النياحة وإطلاق الأصوات بالنياحة على الميت، وبعد ذلك جاءهم وقال: (لا تبكوا على أخي بعد اليوم) يعني: بعدما مضى ثلاثة أيام ليس لهم أن يبكوا؛ لأن الصدمة الأولى وزمن الحزن لا يطول ولا يستمر.
ثم قال: (ادعوا لي بني أخي، فجيء بنا كأنا أفرخ)، الأفراخ هي أولاد الطير الصغار.
ثم قال: (ادعوا لي الحلاق، فأمره فحلق رءوسنا) قيل: إن سبب حلقه لهم أن أمهم كانت منشغلة عن إصلاح شعرهم فخشي أن يترتب على ذلك حصول القمل وحصول الأوساخ، فإذا أزيل صار في ذلك فائدة ومصلحة وراحة لأمهم التي جاءها ما يشغلها عن العناية بشعر أولادها.
فقيل: إن هذه هي الحكمة في كونه أمر بحلقهم وهي الحاجة.
ومعلوم أن الحلق عند المصيبة لا يجوز، وقد جاء في الحديث: (لعن الرسول صلى الله عليه وسلم الصالقة والحالقة والشاقة) والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: التي تشق ثوبها عند المصيبة، والصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، ولكن المقصود من هذا الحلق لأولاد جعفر بعد موته رضي الله تعالى عنه وأرضاه هو كون أمهم كانت منشغلة عن العناية برءوسهم، فخشي أن يصيبهم شيء من القمل فأمر بحلق رءوسهم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فدل هذا على أن الحلق سائغ في غير حج ولا عمرة.
والذي يظهر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تبكوا على أخي بعد اليوم) أن البكاء بعد اليوم الثالث لا يصلح، وأن الإنسان يبقى التأثر معه في حدود ثلاثة أيام، وهذا لا بأس به كما جاء في هذا الحديث.
ولابد من السلوان، ولكن كون الإنسان يستمر ويتذكر المصيبة ويولد البكاء فهذا ليس له، لكن عند الصدمة الأولى وفي الأحوال الأولى للإنسان أن يبكي كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم! لمحزونون) قال ذلك عندما مات ابنه إبراهيم.