أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟! قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم)، و (أو) هنا للعطف، يعني: هذا أو هذا، فأي واحد منهما فإنه يمنع منه.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (اتقوا اللاعنين)، أي: ابتعدوا عن قضاء الحاجة في تلك الأماكن، وأطلق على هذين المكانين -وهما: قارعة الطريق والظل الذي يستظل به الناس- أنهما لاعنان، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم سألوا عن اللاعنين: ما هما؟ فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن المقصود بذلك: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم.
قوله: [(الذي يتخلى)] يعني: الذي يقضي حاجته ويتغوط أو يبول في طريق الناس أو ظلهم؛ لأن الطريق الذي يسلكونه هو معبرهم ومسلكهم؛ ولأنه إذا حصل منه قضاء الحاجة في الطريق فإنه يعرض الناس إلى أن يطئوا النجاسة أو يجعل هناك منظراً يسوءهم ويكون في نفوسهم شيء من هذا المنظر الكريه الذي رأوه.
والظل هنا هو الذي يحتاج الناس إليه بأن يستظلوا من الشمس إذا مروا في الطريق أو في أي مكان يحتاجون إليه للاستظلال به للقيلولة أو الجلوس تحته، فإن الإنسان لا يجوز له أن يقضي حاجته في هذا المكان.
ولا يعني هذا أن كل ظل لا تقضى الحاجة فيه، بل من الظل ما هو يسير وليس معروفاً أنه محل استظلال للناس، فمثل هذا لا بأس بقضاء الحاجة فيه.
وإنما الذي يكون فيه المنع هو ما كان يحتاج الناس إليه، ولهذا قال: (في طريق الناس أو في ظلهم)، أي: الذي يستظلون به لكونهم يأتون وهناك شجر كبار في الطريق، فالناس يحتاجون إلى أن يجلسوا تحتها ويستظلوا بها، فمن جاء وقضى حاجته تحتها فإنه يكون بذلك قد أفسد الظل على الناس الذي هم بحاجة إليه.
وإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم على هذين الموضعين بأنهما لاعنان قد فُسِّر بتفسيرين: الأول: إما أن يكون المقصود أن فعل ذلك سبب ووسيلة لأن يلعن من فعل ذلك، فأطلق على المكانين بأنهما اللاعنان.
الثاني: أن لاعن: بمعنى ملعون؛ لأنه يأتي فاعل بمعنى مفعول، كما يقال عيشة راضية بمعنى: مرضية، وسر كاتم بمعنى مكتوم.
والمعنى: أن من فعل ذلك فإنه يلعنه الناس ويسبونه ويشتمونه ويذمونه، لأنه حصل منه التسبب في إيذائهم، يعني: أنه عرض نفسه لأن يذمه.
ومن المعلوم أن هذا اللعن ليس للمعيّن، وإنما هو لعن بالوصف، من باب: لعن الله من فعل هذا، ومن المعلوم أن اللعن بالوصف سائغ وجائز، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في اللعن بالأوصاف لا بالأعيان، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال)، وقوله: (لعن الله النامصة والمتنمصة)، ونحو ذلك من اللعن بالوصف لا بالعين.
وأما لعن المعين فإن ذلك لا يجوز، إلا إذا علم وأنه كان كافراً ومات على الكفر، فإذا كان كافراً وعرف موته على الكفر فإنه يلعن، أما إذا لم يكن كذلك فإنه لا يلعن؛ لأن المعين قد يتوب وقد يمن الله عز وجل عليه بالهداية ويرجع من الكفر إلى الإسلام.
فلعن المعين هو الذي جاء المنع منه، وأما اللعن بالوصف فإن ذلك سائغ؛ لأنه لا تعيين فيه.
فإذاً: من فعل ذلك فإنه يلعن بفعله، ومن وجد هو يفعل ذلك فلا يقال: لعن الله فلاناً؛ لأن لعن المعين لا يجوز.