شرح حديث: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فضل نشر العلم.

حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا جرير عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم)].

أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في فضل نشر العلم، أي: فضل بذله وتعليمه وإبلاغه إلى الناس؛ ليعملوا به، فيكون من بلغه العلم يعلمه ويعمل به ويبلغه وينشره.

وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم).

وقوله: (تسمعون) هذا خطاب للصحابة لأنهم هم الذين سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وسمعوا حديثه وتلقوه منه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم، فكل من سمع كلامه عليه الصلاة والسلام فإنه من أصحابه، ومن رآه ولم يسمع منه فهو من أصحابه عليه الصلاة والسلام.

فمن سمع كلامه ومن سمع حديثه فهو من أصحابه، ومعلوم أنه لا يسمع الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم الذين جعلهم الله في زمانه ومكنهم من ذلك بخلاف الذين بعدهم فإنهم لم يروه ولم يسمعوا منه وإنما رأوا من سمع منه، وسمعوا ممن سمع منه، وعلى هذا فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين رأوا النبي عليه الصلاة والسلام وسمعوا كلامه.

وأما التابعون فقد رأوا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه، أي: أن أعين الصحابة رأت النبي عليه الصلاة والسلام، وأما التابعون فلم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم رأوا الأعين التي رأت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عن الصحابة.

فقوله: (تسمعون) أي: تسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (ويسمع منكم) أي: التابعون يسمعون من الصحابة، فالذين سمعوا الصحابة هم التابعون، والذين رأوا الصحابة هم التابعون.

وقوله: (ويسمع ممن سمع منكم) أي: أتباع التابعين يسمعون من التابعين الذين سمعوا من الصحابة، وهكذا كل جيل يسمع ممن قبله، وممن تقدمه ممن أدركه، وهكذا فيكون شرع الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناقله الناس منذ زمن الصحابة ويعملون به ويعبدون الله عز وجل وفقاً لهذا الحق والهدى الذي تلقاه الصحابة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتلقاه التابعون عن الصحابة، وتلقاه أتباع التابعين عن التابعين، وهكذا من بعدهم حتى دونت الكتب وألفت المؤلفات في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار الناس يرجعون إلى هذه المؤلفات والمصنفات في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فقوله صلى الله عليه وسلم: (تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم) نظير قوله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) فإن قرنه هم: أصحابه الذين سمعوا منه، والذين يلونهم هم: التابعون الذين سمعوا ممن سمع منهم، وأتباع التابعين هم: الذين سمعوا الذين سمعوا ممن سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا فيه بيان فضل العلم ونشره، وتناقله، وأن كل طبقة تورثه للطبقة التي تليها وهكذا، فطبقة الصحابة هم الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، وطبقة التابعين هم الذين سمعوا من الصحابة، وطبقة أتباع التابعين هم الذين سمعوا من التابعين، وطبقة أتباع أتباع التابعين هم الذين سمعوا من أتباع التابعين وهكذا.

وهذا الحديث ليس فيه دلالة على قلة أهمية السماع بعد عهد أتباع التابعين؛ لأن الأحاديث قد دونت في الكتب، فلا يدل على تقليل أهمية السماع، وإنما كما هو معلوم حصل بعد ذلك تدوين للكتب، وصار الناس يتوارثون هذه الكتب، والسماع كان موجوداً، فكم من مؤلف ومصنف بعد أصحاب الكتب الستة ممن كان في القرن الرابع أو القرن الخامس يروون بالأسانيد مثل: البيهقي ومثل: الطبراني ومثل: أبو عمر ابن عبد البر ومثل: الخطيب البغدادي، ففيهم من كان في القرن الرابع وفيهم من كان في القرن الخامس ومع ذلك كانوا يروون بالأسانيد: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان.

وأما وجه دلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على أتباع التابعين فكأن المقصود أن هذا فيه إشارة إلى الطبقات الثلاث التي هي خير القرون، ولكن كما هو معلوم ليس معنى ذلك أن الأمر يقف عندهم؛ وإنما هذا بيان للطبقات الأولى الثلاث، ومن بعدها يأتي تبعاً لها والسلسلة متصلة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015