قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال: (كان لا يستتر من بوله) وقال أبو معاوية: (يستنزه (].
عقد أبو داود السجستاني رحمه الله هذه الترجمة بعنوان: باب الاستبراء من البول.
والمقصود من ذلك: التنزه منه، والتحرز والتوقي من أن يقع شيء من النجاسة على جسد الإنسان، وعلى ثوب الإنسان، فعلى الإنسان أن يتوقى ذلك، وسبق أن مر حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (مر النبي عليه الصلاة والسلام بقبرين فقال: إنهما -أي: صاحبي القبرين- ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول أو فكان لا يستنزه من البول، ثم دعا بجريدة رطبة فشقها اثنتين، وغرس على كل واحد منهما قطعة وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
وهذا يدل على أن عدم التنزه من البول من الكبائر؛ لأنه جاء الإخبار بالعذاب عليه في القبر، ومن المعلوم أن الكبيرة هي: ما كان عليها حدّ في الدنيا أو توعد عليها بلعنة أو غضب أو نار.
وهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وجود العذاب في حق هذين الرجلين اللذين كان أحدهما لا يستبرئ من البول، وكان الثاني يمشي بالنميمة، وهو دال على أنهما من الكبائر، وقد ذكرنا أن عذاب القبر حق، وأنه جاء في القرآن ما يدل عليه في حق الكفار، كما قال الله عز وجل عن آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
وهذا الحديث فيه: أن من الناس من يعذب في قبره، وفيه: بيان سبب العذاب، وهو المشي بالنميمة، وعدم التنزه من البول، ففيه ذكر العذاب وذكر سببه، وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام وضع في كل قبر قطعة من عسيب أو من جريدة رطبة، وقال: (لعله يخفف عنهما مالم ييبسا).
وهذا يشعر بأن صاحبي القبر من المسلمين، ولكنهما عُذّبا بهذين الذنبين، ولو كانا كافرين لكان التعذيب للكفر؛ لأن كل ذنب يعتبر دون الكفر ودون الشرك بالله عز وجل، وذكرنا أنه لا يجوز لأحد أن يفعل كما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام من وضع الشيء الرطب وغرزه في القبور؛ لأن هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وذلك أن الله تعالى أطلعه على الغيب، وأطلعه على أن صاحبي القبر معذبان، وأطلعه على سبب عذابهما، وهو مشي أحدهما بالنميمة، وعدم استبراء الآخر من البول، وليس أحد يحصل له ما حصل للرسول صلى الله عليه وسلم من الاطلاع على الغيب، فلا يجوز فعل ذلك.
وعذاب القبر حق على كل من يستحقه، ومن شاء الله عز وجل أن يعذب به من المسلمين فإنه يصل إليه ذلك ولابد، وسواء دُفن أو لم يُدفن؛ لأنه لا يختص الأمر بمن دفن في الأرض، بل من يستحق العذاب في البرزخ يصل إليه العذاب، فلا يقال: من أكلته السباع وهو مستحق لعذاب القبر يسلم منه، ولا لمن أحرق وذر في الهواء وهو مستحق لعذاب القبر فإنه يسلم منه، بل إن عذاب القبر يصل إلى كل من شاء الله تعالى أن يعذب فيه.
وعذاب القبر من الأمور الغيبية التي لا تقاس على أمور وأحوال الدنيا، فإننا نؤمن بعذاب القبر، ونعرف أن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، ولو فتحنا القبور فلن نرى جنة ولا ناراً، ولكن ذلك لا يجعل الإنسان يتردد أو يتوقف أو يشك، بل عليه أن يصدق وإن لم ير؛ لأن أمور الآخرة أو أمور البرزخ تختلف عن أمور الدنيا، فأمور الدنيا يعرف فيها الناس النار وعذابها وحصول ذلك، وما جاء في الكتاب والسنة من حصول العذاب على المقبورين، فنحن نؤمن به وإن لم نره، وإن لم نشاهده ونعاينه، وهذا هو الفرق بين من يؤمن بالغيب وبين من لا يؤمن بالغيب ولا يؤمن إلا بما يشاهده ويعاينه.
وبهذا يكون التمييز بين أولياء الله وأعداء الله، ويكون التمييز بين من يكون موفقاً ومن يكون مخذولاً، وبين من يؤمن بالغيب ومن لا يؤمن بالغيب.
وهناك مثال في الدنيا يوضح لنا هذا المعنى: وهو أن الأرواح يحصل لها في النوم نعيم، ويحصل لها عذاب، فينام الشخصان في مكان واحد ثم يقومان من نومهما، وأحدهما كان مرتاحاً في نومه ووجد في نومه ما يسره، ووجد أنه يأكل من النعيم ما لذ وطاب ثم يقوم من نومه ولعابه يسيل! والآخر معه في نفس الغرفة، أو في نفس المكان، ولكنه رأى في منامه أن الوحوش تطارده، والحيات تلاحقه، والعقارب تلسعه، ثم قام من نومه فزعاً، خائفاً مذعوراً، وريقه ناشف! فهذان اثنان في مكان واحد، وقد حصل لأرواحهما ما حصل من الفرق الشاسع، والبون البعيد، فكذلك ما يجري في القبور، فإنه قد يكون الاثنان مقبورين في قبر واحد، وأحدهما منعم والآخر معذب، ولا يصل إلى المنعم من عذاب المعذب شيء، ولا يصل إلى المعذب من نعيم المنعم شيء، بل هذا له نعيمه وهذا له عذابه، والله تعالى على كل شيء قدير.
والمهم في الأمر: أن المسلم لا يتردد ولا يتوقف في الإيمان والتصديق بما جاء به كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء أدركه أو لم يدركه، وسواء عقله أو لم يعقله، مع العلم بأن أمور الآخرة ليست مثل أمور الدنيا، وأمور البرزخ ليست مثل أمور الدنيا، حتى يقيس الإنسان هذا على هذا، فإن هناك فرقاً، ولا تستوي أمور الدنيا وأمور الآخرة، فإذا وجد الإنسان الشيء الذي لا يعرفه فلا يتوقف ويترد أو يشك فيما جاء به الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، بل الواجب التصديق والإيمان.
والقبور فيها أصوات، وفيها صياح وأهوال، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع).
وقد مر بنا الحديث، وعرفنا ما يتعلق بإسناده، وقد أورد أبو داود رحمه الله له إسناداً آخر حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: بمعناه، يعني: لم يسق متن الحديث الذي جاء بهذا الإسناد، وإنما أحال إلى المتن المتقدم، ولكن من حيث المعنى، يعني: أنه موافق للمتن من حيث المعنى، وليس من حيث اللفظ، ولهذا قال: بمعناه.
وفرق بين أن يقول: بمثله أو بنحوه أو بمعناه؛ لأنه إذا قال: بمثله فمعناه: أن المتن مطابق للمتن لفظاً ومعنى، وإذا قال: بنحوه فمعناه: أنه قريب منه، وإذا قال: بمعناه فالمراد: بمعنى الحديث المتقدم وليس بلفظه.
فهنا أحال إلى المتن المتقدم وقال: بمعناه، ولكنه ذكر كلمة جاءت عن شخص على صيغة، وجاءت عن شخص آخر على صغيرة أخرى.
وهي مثلما تقدم في الحديث المتقدم ذكر الاستنزاه والاستتار، حيث قال أحد الرواة: (كان أحدهما لا يستتر)، وقال راوٍ آخر: (كان أحدهما لا يستنزه من البول)، والاستنزاه هو: التحرز، والاستتار: فُسّر أيضاً بأنه التحرز والتوقي، وأنهما بمعنى واحد، وفسر أنه بمعنى عدم كشف العورة والتهاون في ذلك.
ولكن المطابق لما جاء في الحديث من ذكر البول يدل على أن المقصود من ذلك هو عدم التنزه وعدم التحرز منه؛ لأن كشف العورة يمكن أن تكون مع البول ومع قضاء الحاجة ومع غير ذلك، ولكن الشيء الذي يتعلق ويضاف إلى البول هو عدم التوقي وعدم التحرز منه.