قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
حدثنا عمرو بن عون أخبرنا خالد ح وحدثنا مسدد حدثنا خالد المعنى عن بيان بن بشر قال مسدد: أبو بشر عن وبرة بن عبد الرحمن عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت للزبير رضي الله عنه: ما يمنعك أن تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يحدث عنه أصحابه؟ فقال: أما والله! لقد كان لي منه وجه ومنزلة، ولكني سمعته يقول: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: في بيان أن أمره خطير، وأنه عظيم، وذلك أن فيه إضافة شيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، وتقويل له ما لم يقله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فالكذب عليه شيء عظيم، والكذب في حد ذاته مذموم وخطير، ولكنه إذا كان على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فإن الأمر في ذلك يكون في غاية الخطورة وفي غاية الشدة.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وفي بعض الألفاظ أنه قال: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار) يعني: بدون كلمة (متعمداً)، وذلك أن الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بالإخبار بخلاف الواقع، وقد يكون تعمداً، وقد يكون خطأً، ولا شك أن التعمد أمره خطير، وبدون التعمد الإنسان قد يكون معذوراً، ولكن الخطورة في كونه يتلقى عنه ذلك الشيء الذي أخطأ فيه، ثم يتداول، ثم يعمل به، فيكون الناس قد عملوا بخطأ حصل عن طريق ذلك الشخص، فمن هنا تكون الخطورة، ويكون الأمر ليس بالأمر الهين حتى ولو كان مع الخطأ، وهذا هو الذي جعل الزبير رضي الله عنه يتوقى؛ وهو لا يتعمد الكذب، وإنما خشي أنه مع الإكثار قد يحصل منه الخطأ، فيتحمل عنه الخطأ، ويتلقى منه ذلك الخطأ، وحتى لو تداركه فقد يذهب أناس بما حدث به، ولا يعلمون بالتدارك، فيعملون بهذا الذي جاء عنه وهو خطأ منه، فمن هنا كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقون من الإكثار من الرواية؛ خشية أن يخطئوا، ومن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من أكثر من الرواية كالسبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله الأنصاري وعائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عن الجميع، فإن هؤلاء السبعة مكثرون من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أكثر منهم حصل ذلك منه بناءً على ضبطه، وعلى اطمئنانه إلى ما يحدث به، وأيضاً كون أعمار الذين كثر منهم الحديث طالت فكثر الأخذ عنهم، وكثر التلقي عنهم، فصار لهم التميز على غيرهم في كثرة الرواية.
والحاصل: أن من الصحابة من كان يتوقى الإكثار من الحديث خشية أن يحصل منه الخطأ الذي هو غير مقصود، فيترتب على ذلك أن يأخذه غيره، ويعمل به وهو خطأ.
وقوله: [عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير: ما يمنعك أن تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث عنه أصحابه؟].
يعني: أصحابه الذين عرف عنهم الإكثار، وإلا فمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان مقلاً من الراوية، ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يتفاوتون في كثرة المكث مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قلة ذلك، وفيهم الذي لم يلقه إلا مرةً واحدة أو مرتين أو أكثر، وفيهم الذي تلقى منه حديثاً أو حديثين، ولكن من الصحابة من كان ملازماً له، فكثرت روايته، بل إن من الذين لازموه -وهم معروفون بملازمته- من قلت روايتهم، ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لازموه، ولكن المدة التي حصلت الملازمة فيها كانت قليلة ومع ذلك كانت روايته كثيرة.
فالحاصل: أن ابن الزبير سأل أباه الزبير رضي الله عن الجميع: ما يمنعك أن تحدث كما يحدث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أي: بعضهم الذين عرفوا بكثرة التحديث، فقال: (لقد كان لي منه وجه ومنزلة) يعني: لي مكانة عنده، فهو من السابقين الأولين، وهو من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهو ابن صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قريبه، وكذلك أيضاً زوجته أسماء هي أخت عائشة، وهما ابنتا أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فهناك صلة وثيقة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم من جهة النسب ومن جهة المصاهرة، وإنما الذي منعه من التحديث هو الحديث الذي بلغه، وأنه خشي أن يحصل منه الخطأ في التبليغ عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.