قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب رواية حديث أهل الكتاب.
حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أخبرني ابن أبي نملة الأنصاري عن أبيه رضي الله عنه: (أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده رجل من اليهود مُرَّ بجنازة، فقال: يا محمد! هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم، فقال اليهودي: إنها تتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوه، وإن كان حقاً لم تكذبوه)].
أورد أبو داود باب رواية حديث أهل الكتاب، والمقصود من ذلك: أن أهل الكتاب عندما يحصل منهم كلام، ويحصل منهم أحاديث أو إخبار عن شيء موجود في شرائعهم فإنه يروى، ولكنه لا يعول عليه إلا إن جاء في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يؤيده، أما إذا وجد عندهم شيء لم يأت في الكتاب والسنة ما يؤيده، ولم يكن من الأمور الباطلة التي لا تليق برسل الله عز وجل فإنه لا يقبل ولا يرد، وإذا كان الذي يحدثون به ويروونه فيه نيل من أنبياء الله ورسوله، فإن هذا لا يجوز روايته ويجب إنكاره، واعتقاد أنه باطل، وما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يدل على إثباته فإنه يكون ثابتاً بدلالة الكتاب والسنة على ذلك، مثل قول الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة:45]، فهذه أحكام موجودة في التوراة، ونحن عرفنا أنها موجودة في التوراة المنزلة لمجيء القرآن من الله عز وجل بالإخبار بذلك، فالتوارة المنزلة فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف، وهذا عرفناه عن طريق الكتاب العزيز، وكذلك أيضاً ما يأتي عن طريق السنة نصدق به ونعلم أنه موجود في كتبهم؛ لحصول الإخبار به في السنة المطهرة.
وإذا لم يكن لا هذا ولا هذا وليس من الأمور الباطلة التي يجب إنكارها، وكان من الأمور التي لا بأس بها ولا مانع منها، ولكن لم تأت في الكتاب والسنة، وكان كلاماً جميلاً أو كلاماً حسناً؛ فموقفنا منه أننا لا نصدق ولا نكذب به، ونقول: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
إذاً: هذا هو الموقف مما يكون مع أهل الكتاب سواءً مما بأيدهم من كتب، أو مما يضيفونه إلى دينهم من كلام، أو حتى أيضاً ما يوجد في كتبنا من أخبار إسرائيلية لم تكن ثابتة عندنا واشتملت على كلام جميل، فنحن لا نصدق ولا نكذب، ونقول: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم؛ لأننا لو صدقنا مطلقاً فيمكن أن يكون باطلاً، فنكون قد صدقنا بباطل، وإن كذبنا مطلقاً فيمكن أن يكون حقاً فنكون قد كذبنا بحق، ولكن إذا لم نصدق ولم نكذب، ولكن قلنا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم فهذا هو الذي فيه السلامة وفيه العصمة والبعد عن الوقوع في شيء محذور.
وقد أورد أبو داود حديث أبي نملة وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من اليهود مر بجنازة، فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم، فقال اليهودي: إنها تتكلم).
يعني: أنه قاله عما عندهم في كتبهم، وعما عندهم في دياناتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الله أعلم) ولعله صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم بما يجري في القبور وما يحصل في القبور من العذاب ومن الكلام ومن السؤال والجواب، وما إلى ذلك، فيحتمل أن يكون الأمر كذلك، ولكن الحديث غير صحيح؛ لأن فيه نملة بن أبي نملة وهو غير محتج به، ولكن الكلام الأخير الذي فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) هذا ثابت في صحيح البخاري، بل قد جاء في صحيح البخاري في عدة مواضع، منها في كتاب التوحيد ومنها في كتاب الشهادات، وفي مواضع متعددة، وهذه هي الطريقة التي تسلك، فما يحصل من رواية الشيء أو ذكر شيء من أهل الكتاب وعن أهل الكتاب، فإنه يسلك فيه هذا المسلك: لا يُصدقون ولا يُكذبون، ولكن يقال: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم.