قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم أخبرنا شعيب عن الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ابتاع فرساً من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن كنت مبتاعاً هذا الفرس وإلا بعته، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سمع نداء الأعرابي فقال: أوليس قد ابتعته منك؟ فقال الأعرابي: لا، والله ما بعتكه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بلى، قد ابتعته منك، فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيداً، فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله! فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين)].
قول المصنف: [باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به] هذه الترجمة ليست على إطلاقها؛ لأن هذا الشاهد الذي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين هي من خصائص ذلك الصحابي الذي هو خزيمة بن ثابت رضي الله عنه؛ لأنه بادر إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم والشهادة له؛ لأنه يخبر بالوحي ويخبر عن الله، وهو مصدق في كل ما يقول؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقاً ولا يتكلم إلا بصدق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فهي ليست على إطلاقها في غير هذا الموضع، ولكن يمكن أن يقال: يقبل الشاهد الواحد مع اليمين، والحكم بالشاهد واليمين جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبالنسبة لـ خزيمة الذي جاء ذكره في الحديث أن شهادته بشهادة رجلين فهذا من خصائصه ولا يتعداه إلى غيره، وأما بالنسبة لغيره فإن الشاهد الواحد يكون معه اليمين في جانب المدعي؛ لأنه وجد بينة ولكنها غير كافية، تحتاج إلى ضميمة تضم إليها وهي اليمين من المدعي.
وعلى هذا فالترجمة التي أوردها المصنف ليست واضحة؛ لأنها تتعلق بشيء من خصائص ذلك الشاهد الذي حكم النبي صلى الله عليه وسلم بشهادته؛ لصدقه ولكونه شهد للنبي عليه الصلاة والسلام بأنه صادق في كل ما يقول، فمن أجل ذلك بادر إلى هذه الشهادة وسبق غيره إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين.
وعلى هذا فالترجمة ليست دقيقة في الحقيقة، من جهة أن الدليل خاص، ولا يشمل هذا الشمول الذي اشتملت عليه الترجمة، ولكن كونه يضم إليه اليمين، فهذا ليس فيه إشكال، فيحكم بشاهد واحد مع يمين المدعي كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الوضوء، لما جاء إلى حديث فيه شيء يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، أضاف الحكم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال في الترجمة: باب صب النبي صلى الله عليه وسلم فضل وضوئه على المغمى، ثم ذكر الحديث الذي فيه أنه صب فضل وضوئه على مغمى عليه فأفاق، ولم يقل: باب صب الزائر على المريض؛ لأن هذا من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن كل ما لامس بدنه صلى الله عليه وسلم يكون فيه بركه، ويكون له ميزة على غيره، فـ البخاري رحمه الله أتى بهذه الترجمة الخاصة التي تدل على الخصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأت بترجمة عامة أوسع مما جاء في الحديث، حيث قال: باب صب النبي صلى الله عليه وسلم فضل وضوئه على المغمى عليه.
أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث عن أخي خزيمة الذي هو عم عمارة بن خزيمة بن ثابت وفيه: [(أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ابتاع فرساً من أعرابي فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه)].
يعني اشترى فرساً من أعرابي، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتبعه كي يعطيه قيمة الفرس، والرسول صلى الله عليه وسلم أسرع وتقدم، والأعرابي كان يمشي ببطء، فصار هناك فجوة كبيرة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، والناس لقوا هذا الأعرابي الذي معه الفرس، فصاروا يساومونه ولا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اشتراه، وكأنه وجد زيادة، أو أكثر مما كان باعه على النبي صلى الله عليه وسلم فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(إن كنت مبتاعاً هذا الفرس وإلا بعته)] فالنبي صلى الله عليه وسلم التفت إليه فقال: [(أو ليس قد ابتعته منك؟! فقال الأعرابي: لا، والله ما بعتكه)] يعني: حلف الأعرابي كاذباً، وهذا الذي حصل من هذا الأعرابي من جفاء الأعراب وجهلهم، وقد سبق أن مر في الحديث قريباً أنه لا تقبل شهادة البدوي على الحضري؛ لأنه يغلب عليهم الجهل، وعدم الإتيان بالأمور على حقيقتها، وهذا يوضح الذي تقدم؛ لأنه قد باع الفرس من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك أنكر وحلف على إنكاره بأنه لم يبعه، ثم قال: [(هلم شهيداً)] يعني: يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر شهوداً على أنه باعه، فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: [(أنا أشهد أنك بايعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟)] يعني: كيف تشهد وأنت ما حضرت؟ فقال: [(بتصديقك يا رسول الله)] يعني: أشهد على صدقك لأنك تأتينا بخبر السماء وبالوحي، والناس يصدقونه في كل ما يقول فكيف لا يصدقونه مع أعرابي؟ فهم يصدقونه في كل ما يقول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين)] هذه من خصائصه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.