قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب اجتهاد الرأي في القضاء.
حدثنا حفص بن عمر عن شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله)].
قوله: [باب اجتهاد الرأي في القضاء].
يعني: حيث لا يوجد دليل من كتاب ولا سنة فإنه يجتهد في إلحاق النظير بالنظير، يعني: بالقياس أو بلفظ عام، أو قاعدة عامة من قواعد الشريعة، والمقصود من ذلك أنه يجتهد بالرأي بأن يقيس، أو يعتبره ضمن قاعدة من قواعد الشريعة، أو ضمن عموم من عمومات الكتاب والسنة التي يندرج تحتها ذلك الشيء أو تلك النازلة أو تلك الواقعة التي حصلت فيها الخصومة، وليس المقصود من ذلك أنه يعمل بالرأي المجرد دون أن يكون هناك سعي واجتهاد ووصول إلى الحكم بشيء بني عليه الاجتهاد إما قياس أو غير ذلك.
أورد أبو داود حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: [(كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد قال: أجتهد رأي ولا آلو) يعني: أجتهد رأيي ولا أقصر في الاجتهاد والبحث عن الحق، وإلحاق النظير بالنظير.
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: (الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) والحديث فيه ثلاث علل: أولاً: أن فيه إرسالاً؛ لأن أصحاب معاذ هم الذين يحكون القصة، ثانياً: أنهم مبهمون، ثالثاً: أن الحارث بن عمرو الذي يروي عن هؤلاء هو أيضاً مجهول.
ففيه هذه العلل، ولهذا ضعفه الشيخ الألباني، ولكن بعض أهل العلم صححه أو حسنه، ومنهم ابن كثير في أول تفسير سورة الفاتحة، وكذلك الشوكاني حسنه وقال: إن ابن كثير جمع فيه جزءاً وقال: كذلك أيضاً أبو الفضل بن طاهر المقدسي جمع فيه جزءاً.
وقد وجدت آثار عن عدد من الصحابة تدل على ما دل عليه، وهي مطابقة له تماماً، وذلك عن عمر بن الخطاب وعن عبد الله بن مسعود وهما في سنن النسائي في باب الحكم باتفاق أهل العلم؛ لأن فيهما زيادة: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فما قضى به الصالحون) يعني: بما اتفق عليه أهل العلم وهو الإجماع، قال: (فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي).
وكأن الألباني استنكره من ناحية المعنى، يعني: أن الكتاب والسنة شيء واحد، وأن كلاهما وحي، وأن هذا التفصيل فيه نظر.
والمقصود من ذلك أن الإنسان عندما يبحث في الأدلة يبحث في القرآن أولاً ثم يبحث في السنة، وكل منهما من ناحية الحكم والتعويل واحد؛ لأن السنة متعبد بها كما يتعبد بالقرآن من حيث العمل، وعليه أن يصير إلى ما يجد من دليل من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يحصل شيئاً من ذلك، ووجد إجماعاً أو حكاية إجماع واتفاق العلماء على ذلك فإنه يأخذ به، وإن لم يكن شيئاً من هذا ولا هذا فإنه يجتهد رأيه، وذلك بإلحاق النظير بالنظير، وإلحاق الشبيه بالشبيه، أو بإدخاله تحت قاعدة عامة، أو إدراجه تحت لفظ عام، أو ما إلى ذلك من الطرق التي يمكن أن يصار إليها؛ لأن الشريعة مستوعبة لكل شيء، وهذا الاستيعاب ليس بألفاظها؛ لأنه ليس كل قضية لابد أن يوجد فيها نص، ولكن هذا يكون بعموماتها وبقواعدها بقياس الشبيه بالشبيه والنظير بالنظير وهكذا، ولهذا كل نازلة تنزل بالناس ولم يعرف لها مثيل فيما مضى فإنه إذا تؤمل في نصوص الكتاب والسنة وفي قواعد الشريعة وفي عمومات النصوص وفي القياس وما إلى ذلك فإنه يمكن إيجاد الحل لها؛ لأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان وهي مستوعبة لكل شيء.
وأيضاً ذكر صاحب عون المعبود: أن البيهقي في كتابه السنن لما ذكر هذا الحديث الذي معنا ذكر بعد ذلك أربعة آثار: أثر عمر وأثر ابن مسعود وأثر زيد بن ثابت وأثر ابن عباس.
والحديث الذي أنكره الألباني هو هذا الحديث الذي معنا حديث معاذ، أما الآثار فليس فيها إشكال.
لكن كما هو معلوم أن العلماء عندما يأتون بالأدلة يذكرون أولاً أدلة الكتاب ثم أدلة السنة كما يأتي في كثير من المسائل، يعني: عندما يريد المستدل أن يستدل، يقول: وهذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والقياس أو المعقول، أما الكتاب فقول الله عز وجل كذا، وأما السنة فقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، وأما الإجماع فقد حكى فلان الإجماع، وأما القياس فكذا وكذا، أو المعقول فكذا وكذا.