قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الغسل يوم الجمعة.
حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، أخبرنا معاوية، عن يحيى، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة أخبره: (أن عمر بن الخطاب بينا هو يخطب يوم الجمعة إذ دخل رجل فقال عمر: أتحتبسون عن الصلاة؟ فقال الرجل: ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت، فقال عمر: والوضوء أيضاً؟ أولم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل؟)].
أورد المصنف رحمه الله باباً في الغسل يوم الجمعة، هذه الترجمة معقودة لغسل من الأغسال وهو غسل يوم الجمعة، وكان المناسب أن يكون هذا الباب تابعاً للأبواب المتعلقة بالغسل من الجنابة؛ لأنه نوع من الأغسال، ولأن صلته أو تعلقه بأبواب الغسل أولى من مجيئه بعد أبواب التيمم، كما أن هناك تراجم أخرى أيضاً يناسبها أبواب تقدمت كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.
وغسل يوم الجمعة جاء فيه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في حكمه، فبعض العلماء قال: إنه واجب.
وجمهور العلماء قالوا: إنه مستحب، والذين قالوا بالوجوب استدلوا بالأحاديث التي فيها الأمر بالغسل يوم الجمعة، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم).
والذين قالوا بالاستحباب جعلوا هذه الأوامر محمولة على الندب، وجعلوا الصارف لها عدة أمور منها: ما جاء في الحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، وكذلك أيضاً ما جاء في حديث عمر رضي الله تعالى عنه (أنه كان يخطب وأنه دخل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه فقطع عمر خطبته وحدثه وتكلم معه، وقال له: أتحتبسون عن الصلاة؟ فقال: إنني لما سمعت الأذان ما زدت على أن توضأت) معناه: أنه توضأ وجاء ليدرك الصلاة، فقال: (والوضوء أيضاً؟) يعني: أنه مع التأخر لم يغتسل، ثم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) قالوا: وهذا الحديث يدل على أنه مستحب؛ لأنه لو كان واجباً لما كان يليق بـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه أن يأتي دون أن يؤدي ذلك الواجب، وأيضاً عمر رضي الله عنه لم يأمره بأن يرجع وأن يغتسل وأن يأتي بذلك الواجب، وكذلك أيضاً ما جاء أن أصل الأمر بالغسل يوم الجمعة أنهم كانوا أصحاب مهن وأصحاب بساتين وكانوا يعملون لأنفسهم وليس لهم خدم، فكان الواحد منهم إذا جاء يوم الجمعة وإذا فيه رائحة غير طيبة؛ بسبب الأوساخ وإجهاد العمل لهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بأنهم إذا أتوا الجمعة أن يغتسلوا، فيكون في ذلك إزالة تلك الروائح التي يكون فيها أذى للناس، وأيضاً كونه جاء في بعض الأحاديث التي فيها الاغتسال يوم الجمعة مقروناً بالسواك، ومقروناً بأمور أخرى، فمجموع هذه الأمور المتعددة جعلت الجمهور يقولون: إنما جاء من الأوامر في الاغتسال يوم الجمعة إنما هو للاستحباب.
أورد أبو داود رحمه الله عدة أحاديث، أولها: حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (أنه كان يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل) هنا أبهم الرجل فلم يسمه، ولكن جاءت تسميته وأنه عثمان في صحيح مسلم: (وأنه دخل وعمر يخطب فقال له عمر: أي ساعة هذه -يعني: أنك متأخر- ثم قال له ما قال، وقال: والوضوء أيضاً؟) يعني: أيضاً تركت الاغتسال.
ولهذا لما جاء زمن عثمان رضي الله عنه وأرضاه رأى أن المصلحة في أن يكون هناك أذان ثالث بالنسبة للإقامة؛ لأن الإقامة أذان، ولهذا جاء عنه في بعض الأحاديث ذكر أذان عثمان بأنه الأذان الثالث، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة)، والمقصود بأحد الأذانين هو الإقامة، وكذلك الحديث الذي قال فيه أحد الصحابة: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟) يعني: بين أذان الإقامة والسحور؛ لأن الأذان الذي يكون عند دخول الوقت يمسك الإنسان عنده عن الأكل وغيره من المفطرات.
(كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) يعني: مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية من انتهاء السحور إلى الأذان الذي هو الإقامة، وقد جاء في بعض الأحاديث ذكر الأذان يوم الجمعة بأنه الأذان الثالث، والأذان الثالث الذي أتى به عثمان حتى يتنبه الناس ويستعدوا ويتهيئوا للجمعة.
ومحل الشاهد منه: أن عمر رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) قوله: (فليغتسل) هذا أمر، وبعض أهل العلم حمله على الوجوب، وبعضهم قال: إنه مصروف من الوجوب إلى الاستحباب للأمور التي أشرت إليها آنفاً.