قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قضاء القاضي إذا أخطأ.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئاً، فإنما أقطع له قطعة من النار)].
قوله: [باب في قضاء القاضي إذا أخطأ].
سبق أن عرفنا أن القاضي إذا اجتهد وأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد وخطؤه مغفور، وأنه إذا قضى بغير علم فإنه آثم ولو أصاب، وأنه في النار، وهو أحد القضاة الثلاثة الذين مر ذكرهم في الحديث.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئاً، فإنما أقطع له قطعة من النار)] وهذا فيه بيان أن الحكم إنما هو بالظاهر، وأنه لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، وأن حكم الحاكم إذا كان بناه على ما ظهر فإنه لا يحرم الحلال ولا يحل الحرام، وإنما على من قضي له بحق أخيه وهو يعلم أنه مبطل ألا يأخذ ذلك الحق؛ لأنه إن أخذه فإنه يعاقب عليه يوم القيامة ويعذب به في نار جهنم، وإنما عليه أن يرد الحق إلى صاحبه.
إذاً: الحكم إنما يكون بالظاهر فلا يكون الحكم ظاهراً وباطناً؛ لأن القاضي قد يأتي إليه شهود يشهدون ويبني حكمه على شهادتهم، وقد يكونون شهود زور، والمقضي له يعلم بأنه مبطل فحكم القاضي له في الظاهر لا يحل الحرام بل عليه أن يرد الحق إلى صاحبه؛ لأنه إنما حكم بالظاهر، والباطن لا يعلمه إلا الله عز وجل.
قوله: [(إنما أنا بشر)] يعني: أنه من جنسهم ولكن الله عز وجل منَّ عليه بالرسالة، وهو صلى الله عليه وسلم ليس له شيء من خصائص الله، بحيث يكون عالماً بكل الغيوب؛ فإن علم الغيب على الإطلاق من خصائص الله سبحانه وتعالى، كما قال الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، والله تعالى أمر نبيه بأن يقول: إنه لا يعلم الغيب، يقول عز وجل: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50] وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188] وعلى هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يأتيه الخصوم ويكون بعضهم ألحن بحجته من بعض، وقد يأتي بشهود الزور ثم يحكم بتلك الشهادة وهو لا يعلم الغيب، وإنما الله عز وجل هو الذي يعلم الغيب، ولهذا قال: (فمن قضيت له من حق أخيه) يعني: وهو لا يستحقه فحكمي إنما هو بالظاهر ولا يحل الحرام، فهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب على الإطلاق، وإلا فإن الله تعالى قد أطلعه على كثير من الغيوب، ولكن الذي اختص بعلم الغيب مطلقاً بحيث يكون محيطاً بكل شيء، عالم الغيب والشهادة، يعلم السر والنجوى، وهذا كله من خصائص الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، ومما لم يطلعه عليه علم الساعة متى تقوم، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الساعة كما جاء في حديث جبريل قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) وقال عز وجل حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187].
قوله: [(إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)].
يعني: لو كان عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب لعلم المحق من المبطل إذا جاءه الخصمان، ولكنه لا يعلم الغيب فيأتيه الخصمان وكل يدلي بما عنده، وقد يكون بعضهم أبلغ في الحجة وأفصح وأبين وأفطن فيقضي على نحو ما يسمع، ولكن بين صلى الله عليه وسلم أن قضاءه لا يحل ما كان حراماً، فإذا كان الخصم يعلم أنه مبطل فإن حكم القاضي لا يبيح له ذلك الباطل؛ لأن القاضي يحكم بالظاهر، والباطن علمه عند الله عز وجل، فمن كان مبطلاً وعرف أنه مبطل فلا يتذرع بقضاء القاضي ويقول: أنا قضي لي بهذا، أو حكم لي الحاكم بهذا؛ لأن الحاكم حكم بالظاهر، والباطن لا يعلمه إلا الله، فلا يجوز للمقضي له أن يستعمل ذلك الذي قضي له به وهو لا يستحقه، بل عليه أن يعيده إلى صاحبه.