قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كسب الحجام.
حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا أبان عن يحيى عن إبراهيم بن عبد الله -يعني ابن قارظ - عن السائب بن يزيد عن رافع بن خديج رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (كسب الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب كسب الحجام، أي: حكمه.
وحكم كسب الحجام أنه حلال، ولكنه مكسب ليس بشريف، بل هو من أردأ المكاسب، لما فيه من استعمال الدم، وكان الحجام في الأزمنة الماضية يمص المحاجم، وقد يسبق إلى حلقه شيء من الدم بسبب المص؛ ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفطر الحاجم والمحجوم)، فالمحجوم لكونه خرج منه دم، والحجام لأنه مظنة أن ينتقل إلى حلقه دم بسبب المص.
وفي الأزمنة المتأخرة صارت الحجامة بدون مص، ولكن هي مهنة رديئة وليست شريفة، فكسب الحجام من المكاسب التي يرغب عنها، والناس لا بد لهم منها، ومع ذلك فهي من أردأ المكاسب وأدناها، وليس كسبها حراماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره، ولو كان حراماً لم يعطه كما قال ذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
أورد أبو داود حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كسب الحجام خبيث)، والمقصود بالخبيث هنا الرديء وليس المحرم كما قال الله عز وجل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] يعني: لا تعمدوا إلى الشيء الرديء فتنفقون منه، وأما الجيد الذي يعجبكم فلا تقدمون على الإنفاق منه، بل كما قال الله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، فليس المقصود بالخبيث هنا المحرم، وإنما المقصود به الرديء، وكسب الحجام لا شك أنه رديء، ولكنه مباح، والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى الحجام أجره، ولو كان حراماً لم يعطه.
قوله: (وثمن الكلب خبيث)، المقصود بالخبيث هنا المحرم؛ لأن الكلب لا يصلح أن يكون سلعة تباع ويشترى، وإنما يجوز استعماله في أمور معينة هي: الصيد والماشية والحرث فقط، كما جاء ذلك في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن احتاج إليه استعمله، ومن لم يحتج إليه تركه أو أعطاه غيره، أما كونه يباع ويشترى فهذا غير لائق، وإنما يستعمل للحاجة، ومن صار تحت يده فهو مختص به، وهو أولى به من غيره، وإن استغنى عنه فلا يبعه، وإنما يعطيه لمن يستعمله أو يرسله ويتركه مع الكلاب المرسلة المهملة.
قوله: (ومهر البغي خبيث) المراد ما تأخذه المرأة الزانية في مقابل زناها، فهذا حرام لكون الزنا حراماً، وما أخذ عليه حرام.
إذاً: هذا الحديث مشتمل على ثلاثة أمور، كل منها وصف بأنه خبيث، ولكنها ليست كلها على حد سواء وطريقة واحدة، بل منها ما هو خبيث بمعنى أنه من الخبائث المحرمة، ومنها ما هو خبيث بمعنى أنه من المكاسب الرديئة.