قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التشديد في ذلك.
حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثني أبي عن جدي الليث قال: حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر (أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري رضي الله عنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينهى عن كراء الأرض، فلقيه عبد الله فقال: يا ابن خديج! ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كراء الأرض؟ فقال رافع لـ عبد الله بن عمر: سمعت عميَّ -وكانا قد شهدا بدراً- يحدثان أهل الدار: أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن كراء الأرض.
قال عبد الله: والله! لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الأرض تكرى، ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدث في ذلك شيئاً لم يكن علمه، فترك كراء الأرض)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب التشديد في ذلك، أي: في المزارعة، وقد سبقت أحاديث فيها النهي عن المزارعة، وعرفنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن أمور فيها جهالة، وأما الشيء المعلوم فلا بأس به، أو أنه كان يرشد إلى ما هو الأكمل والأفضل، وهو أن الإنسان يساعد ويعين ويمنح أخاه الأرض بدون مقابل.
وقد جاء ما يدل على ثبوت المزارعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الراشدين من بعده رضي الله تعالى عنهم، ومن ذلك معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود في خيبر حيث أعطاهم الأرض والنخل على الشطر مما يخرج منها من ثمر أو زرع.
وقد أورد أبو داود في هذا الباب أحاديث فيها وعيد شديد في حق من يفعل المزارعة لكنها غير ثابتة، ولو ثبتت فتحمل على الشيء الذي فيه جهالة بأن يقول: لي ما على الماذيانات وأقبال الجداول أو الناحية الفلانية دون الناحية الفلانية، وهذا لا شك أنه محرم وغير جائز؛ لأن أحد الطرفين -صاحب الأرض أو المزارع- يستفيد من الثمرة دون الآخر، والأصل في المزارعة أن كلاً منهما يستفيد إن وجدت فائدة، وإن حصل ضرر أو ما حصلت فائدة من الزرع فإن العامل ضاع عليه عمله، وصاحب الأرض استخدمت أرضه دون أن يحصل منها على طائل.
وأورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى أنه كان يكري أرضه للزراعة حتى بلغه عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فلقي عبد الله بن عمر رافعاً وسأله عن الحديث الذي يحدث به، فقال: إنه سمع عميه وهما يحدثان أهل الدار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن ذلك، فقال عبد الله بن عمر: كنا في زمنه عليه الصلاة والسلام نكري الأرض، ولكن عبد الله بن عمر خشي أن يكون حصل شيء من النبي عليه الصلاة والسلام فيه تحريم ذلك، أو حصل نسخ للأمر الذي كانوا عليه أولاً، فمن باب الورع ترك عبد الله بن عمر رضي الله تعالى كراء الأرض بعد ذلك بناء على ما جاء في حديث رافع بن خديج.