قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الأيمان والنذور.
باب التغليظ في الإيمان الفاجرة.
حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ بوجهه مقعده من النار)].
قوله: [كتاب الأيمان والنذور] الأيمان: جمع يمين، والنذور: جمع نذر، واليمين المقصود به الحلف والقسم، وقيل للحلف يميناً لأنهم كانوا عند الحلف يضع الشخص يمينه بيمين الآخر، أو يده بيد الآخر، من أجل التوثيق والتأكيد للشيء الذي يحلف عليه، فلذلك لها: يمين.
واليمين شرعاً: توكيد الشيء بذكر اسم الله أو صفته، يقول: والله، والرحمن، والرحيم، والعزيز، والحكيم، واللطيف، والخبير، وهذه أسماء، أو يقول: وحياة الله، وجلال الله، وعظمة الله، وعزة الله، وكلام الله، ويد الله، وغير ذلك من صفات الله عز وجل، فيؤكد الشيء بذكر اسم الله عز وجل عليه أو صفته، ويكون ذلك بالأسماء والصفات، والحلف بأسماء الله وصفاته هو حلف بالله عز وجل؛ لأن أسماء الله يحلف بها وصفات الله يحلف بها، والحالف بذلك يكون حالفاً بالله؛ لأن الله عز وجل بذاته وأسمائه وصفاته هو الخالق ومن سواه مخلوق، فلا يحلف إلا بالله سبحانه وتعالى، ولا يكون الحلف مقصوراً على لفظ الله، بل الذي يحلف بصفات الله وأسمائه يكون حالفاً بالله؛ لأن الحلف بالله هو الحلف بأسمائه وصفاته، وليس مجرد لفظ الجلالة الذي هو (الله)، وإنما هذا الاسم هو أعظم الأسماء وأصل الأسماء الذي تضاف إليه الأسماء وتتبعه.
فالحلف بالأسماء والصفات هو حلف بالله عز وجل.
وأما النذور فهي جمع نذر، والنذر: هو أن يوجب الإنسان على نفسه ما ليس واجباً عليه لحدوث أمر، كأن يقول: إن حصل كذا فلله علي كذا وكذا، أو إذا تحقق كذا أو وجد كذا فلله علي كذا وكذا، فالناذر يلزم نفسه بشيء ليس بلازم عليه، لكن هذا الإلزام يكون مبنياً على حصول شيء، ومضافاً إلى حصول شيء، كأن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي كذا، أو إن رد الله غائبي فلله علي كذا، ونحو ذلك.
ويجمع بين الأيمان والنذور في الكتب للتقارب بينها، ولأن النذر أيضاً جاء في بعض الأحاديث: (كفارته كفارة يمين)، ولهذا صار العلماء يجمعون بين الأيمان والنذور في كتاب واحد، كما فعل أبو داود، وكما فعل البخاري وغيرهما؛ فإنهم يجمعون بين هذا وهذا فيقولون: كتاب الأيمان والنذور.
قوله: [باب التغليظ في الأيمان الفاجرة]، الفاجرة: هي الكاذبة التي هي مبنية على كذب، وهي اليمين الغموس، واليمين الغموس هي التي تغمس صاحبها في الإثم، وقيل لها: فاجرة بمعنى كاذبة؛ لأن الحالف كاذب في حلفه، وهي تكون عن خبر وليس فيها كفارة، وإنما على الإنسان أن يتوب إلى الله عز وجل ويستغفر ويندم مما قد حصل منه.
وأما الأيمان المعقودة على أمر مستقبل فهذه هي التي تكون فيها كفارة إذا حنث فيها، فإذا لم يف بما حلف عليه فإنه يكفر عن يمينه، كما جاء في الحديث: (فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير) فإذا حلف الإنسان على يمين ورأى غيرها خيراً منها فيكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير.
فالكفارة تكون عن الإيمان المعقودة التي يؤتى بها لأمر مستقبل، أو لأمر يفعله، أو أمر لا يفعله، ثم بعد ذلك يظهر له أن المصلحة في الفعل أو عدم الفعل -وهو الحنث- فإنه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير.
والكفارة ذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز وهي: عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، وإذا لم يستطع لا هذا ولا هذا فإنه ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام، هذه هي كفارة الإيمان التي شرعها الله عز وجل في كتابه العزيز.
وقد أورد أبو داود حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ بوجهه مقعده من النار).
وهذا هو المقصود من قوله: (التغليظ في الأيمان الفاجرة) أي: أن أمرها خطير، وأنه ورد فيها زجر ووعيد شديد، فهذا هو المقصود بالتغليظ، والتغليظ هو في قوله: (فليتبوأ بوجهه مقعده من النار)، وهذا يدل على خطورة هذا الأمر، وأن فيه الوعيد الشديد، وأن أمره خطير تُوعد عليه بهذه العقوبة الشديدة العظيمة التي هي أنه يتبوأ بوجهه مقعده من النار.
واليمين المصبورة: هي التي يصبر لها الإنسان ويلزم بها في الحكم، كأن يلزم القاضي شخصاً بأن يحلف على أمر من الأمور فيحلف، فإن هذا يقال له: يمين صبر أو يمين مصبورة؛ لأنه حبس عليها وألزم بها، وليست من قبيل لغو اليمين، كقول الإنسان: لا والله وبلى والله، وإنما المقصود من ذلك يمين يترتب عليها حكم، ويلزم القاضي الشخص بأن يحلف فيحلف، ويترتب على ذلك تحصيل شيء محلوف عليه هو كاذب فيه، فيصل إليه شيء لا يستحقه بسبب اليمين، فيتبوأ مقعده من النار بسبب ذلك.
وقوله: (من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ بوجهه مقعده من النار)، أي: أنه يكب على وجهه، وأنه يستعد لهذا المكان الذي هيئ له والذي يكب فيه على وجهه في النار والعياذ بالله! وكونه يقع في النار على هذا الوجه الذي فيه إذلال وإهانة، ويكب على أشرف شيء فيه، لا شك أن هذا فيه ذل وهوان، وفيه زيادة في العقوبة، ولهذا يقول الله عز وجل: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22]، فالذي يسحب على وجهه في النار -والعياذ بالله- وهو أشرف شيء فيه، معناه: أنه بلغ الغاية في الذلة والإهانة والعياذ بالله.