شرح حديث: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فقال: اللهم اغفر لحينا وميتنا)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا شعيب -يعني: ابن إسحاق - عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جنازة فقال: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده)].

أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دعائه في صلاته على جنازة (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده).

هنا في رواية أبي داود ذكر الإيمان أولاً، وذكر الإسلام آخراً، فقال: (اللهم من أحييته فأحيه على الإيمان، ومن توفيته فتوفه على الإسلام)، والمعروف في أكثر الروايات هو العكس، (اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته فتوفه على الإيمان)، ومعلوم أن الإيمان والإسلام إذا انفرد أحدهما فإنه يشمل الآخر، وإذا جُمع بينهما في الذكر فإن المعنى يوزع بينهما كما في حديث جبريل، ومعلوم أن الإنسان في الحياة الدنيا يحيا على دين الإسلام، وأما عند الموت فإنه يكون على الإيمان، وهو أكمل من الإسلام، فدرجة الإيمان أعلى من درجة الإسلام؛ لأن الإيمان يشمل الإسلام وزيادة، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، ولهذا جاء في القرآن في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، وجاء في حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى جماعة وفيهم رجل كنت أظنه أولاهم، فقلت: يا رسول الله! إنك أعطيت القوم وفيهم فلان وهو مؤمن، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أوْ مسلم) أي: أنه يلقنه أن يقول: مسلم؛ لأن الإسلام هو المقدار الذي يشترك فيه الناس، فكل من دخل في الإسلام فإنه يقال له: مسلم، لكن ليس كل من دخل في الإسلام يقال له: مؤمن؛ لأن الإيمان أكمل من الإسلام، ولهذا فالمشهور عند أهل السنة أن الإنسان يستثني في الإيمان فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنها درجة كمال، ولكن إذا قيل له: أأنت مسلم؟ فإنه يقول: نعم مسلم، وإذا قيل له: أنت مؤمن؟ فيقول: مؤمن إن شاء الله.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجهاً في تقديم الإسلام وهو: أن الإسلام إذا ذُكر مع الإيمان فالمراد به العمل، وما دام أن الإنسان في الحياة فعنده استطاعة على العمل، وأما عند الموت فلا مجال إلا للإيمان، أي: الاعتقاد الصحيح.

أقول: وهذا يوضح هذا المعنى، فالإسلام -كما هو معلوم- هو الاستسلام والانقياد، فهنا قال: لأن الإسلام يراد به العمل، ولهذا لما فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام في حديث جبريل قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) ولما فسر الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) فكله اعتقادات قلبية ليس فيها عمل، فعند الجمع بينهما يحمل الإسلام على الأمور الظاهرة، ويحمل الإيمان على الأمور الباطنة، وكما قال شيخ الإسلام إن الحياة فيها عمل، وأما عند الموت فإنه يموت على الإيمان والتصديق بأركان الإيمان هذه.

ويمكن أن يقال: إن الحديث وقع فيه قلب، وذلك كما وقع في حديث أبي هريرة: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) فقلبه بضعهم فقال: (حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله)، وكما جاء في حديث: (من كان له إبل لا يؤدي زكاتها بطح يوم القيامة بقاع قرقر، فتمر عليه تطؤه بأخفافها، كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها)، فقد جاء مقلوباً: (كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها)، مع أن الرد لا يكون إلا بعدما ينتهي الآخر، فيبدأ الأول من جديد، وأما إذا مر عليه الأول فالآخر يكون في الطريق إليه فلا يكون ذلك رداً، فالرد إنما يكون بعد الاستكمال، فيمكن أن يكون هذا من قبيل القلب.

والذي يبدو أن هذا اللفظ عام، فيدعا به لأي ميت، ولا تغير فيه الضمائر بحسب الميت إن كان ذكراً أو أنثى، بل يقال: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا) للجميع، ثم هذا الدعاء شامل يدخل فيه الحي والميت، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، والشاهد والغائب، وهو دعاء للجنازة ولغير الجنازة، وللحاضر والغائب، والصغير والكبير، والذكر والأنثى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015