قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة؟ حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم قال: أخبرنا شعيب عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه -وكان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم- (كان كعب بن الأشرف يهجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون والمشركون يعبدون الأوثان، واليهود، وكانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فأمر الله عز وجل نبيه بالصبر والعفو، ففيهم أنزل الله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [آل عمران:186] الآية.
فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ رضي الله تعالى أن يبعث رهطاً يقتلونه، فبعث محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وذكر قصة قتله، فلما قتلوه فزعت اليهود والمشركون، فغدوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: طرق صاحبنا فقتل، فذكر لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يقول، ودعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتاباً ينتهون إلى ما فيه، فكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبينهم وبين المسلمين عامةً صحيفة)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة؟ أي: الكيفية التي حصل بها إخراجهم، ومعلوم أنهم قد أجلوا من المدينة، ومنهم من ذهب إلى خيبر، ومنهم من ذهب إلى الشام.
وقد أورد أبو داود حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه، وكان أحد الثلاثة الذي تيب عليهم أي: الذين خلفوا في غزوة تبوك، وأنزل الله تعالى فيهم قرآناً يتلى بعد أن ذكر توبته على المهاجرين والأنصار {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117] ذكر التوبة على الثلاثة الذين خلفوا وهم: كعب بن مالك وصاحباه، ولم يكونوا منافقين ولا معذورين، فهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة، وأنزل الله عز وجل توبته عليهم، وقد نجاهم الله تعالى بالصدق، وأنزل الله عز وجل فيهم الآية: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]، وبعدها قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] أي: كونوا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم صادقون، والذين نجاهم الله تعالى بالصدق.
ذكر كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف -وهو من كبار اليهود في المدينة من بني النضير- كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لـ سعد بن معاذ سيد الأوس: (ابعث من يقتل كعب بن الأشرف)؛ وذلك لإيذائه الرسول صلى الله عليه وسلم وسبه، فأرسل محمد بن مسلمة وقتله، وقد مر في كتاب الجهاد قصة قتله.
والرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان فيها أخلاط من أهل الكتاب من اليهود وهم من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، والمسلمون من الأوس والخزرج، والمشركون الذين بقوا على شركهم وعلى عبادتهم للأوثان، وكانوا متمالئين مع اليهود، وأنزل الله عز وجل فيهم: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران:186]، وأمر الله عز وجل نبيه أن يصبر، وبعد أن قتل كعب بن الأشرف جاء اليهود إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالوا: إنه طرق صاحبنا -أي: طرق بليل- وقتل، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب بينه وبينهم عهداً يلتزمون به، وينتهون إلى ما كتب فيه، ويعتمدونه، فكتب صحيفة صلح بين المسلمين وبينهم، ولكنهم بعد ذلك نقضوا العهد، وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء صخرة عليه وهو جالس تحت جدار، وبعد ذلك حصل إجلاؤهم من المدينة.
وهذا بالنسبة لبني النضير، وأما بنو قريظة فإنهم بقوا على العهد حتى جاء الأحزاب من مكة وغيرها لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاروا معهم، فنقضوا بذلك العهد، ولما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ذهب إلى بني قريظة.
وأما بنو قينقاع فإنهم أول من أُخرج من المدينة قبل بني النضير وقبل بني قريظة.