Q ما حُكم طواف الوداع للمعتمر؟
صلى الله عليه وسلم هذه مسألة خلافية، فمن العلماء من قال بوجوبه لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه يعلى بن أمية رضي الله عنهما وأرضاهما أنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي عليه جبة عليها صفرة من أثر الطيب، وهو معتمر بالجعرانة فقال: يا رسول الله! ما ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ قال: فأُوحِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يغط كغطيط البكر، فلمّا سُرِّي عنه قال: أين السائل؟ قال: أنا.
قال: انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).
قالوا: وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).
فهذا يدل على أن العمرة تأخذ حكم الحج، فإن كان طواف الوداع واجباً في الحج فيلزمكم أن تقولوا بوجوبه في العمرة.
وذهب طائفة من العلماء إلى أنه لا يجب طواف الوداع في العمرة.
وهذا هو الصحيح؛ لأنه الأصل، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عائشة أن تطوف طواف الوداع بعد فراغها من عمرتها بعد الحج، ولأن الدليل الذي استدلوا به إنما هو أشبه بالتروكات لا بالأفعال، ووجه ذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) المراد به حسب السياق الذي ورد في القصة: اصنع في عمرتك هذه ما أنت صانع في حجك من الانكفاف عن المحظورات؛ إذ لو كان المراد به الأفعال لوجب عليه أن يخرج إلى عرفة، وأن يبيت بمزدلفة، وأن يفعل ما يفعله الحاج في الأفعال، فدل على أنه في مقام التروكات، وليس في مقام الأفعال.
فبما أن قوله: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) تخرج منه أفعال الحج، فإن طواف الوداع من أفعال الحج، وتأكّد هذا من جهة النظر في معنى طواف الوداع، ففي حديث عائشة في طواف الوداع في الصحيح قالت رضي الله عنها: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات) بمعنى أنهم يكون آخر عهدهم بمنى وعرفات، قالت: (فأُمِروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً)، والسبب أنهم كانوا يطوفون يوم النحر فيبعد عهدهم بالبيت، فشُنِّع على الحاج أن يصدُرَ من حجه دون أن يطوف بالبيت، قالت: (فأُمِروا -وهذا تخصيص واضح بالحاج- أن يجعلوا آخر عهدهم -أي: عهد الحاج- بالبيت طوافاً)، فصار من واجبات الحج، ولم يصر من واجبات العمرة، ويتأكد هذا بأن عائشة بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بطواف الوداع في الحج لم يأمرها أن تطف طواف الوداع في عمرتها، وإلا كانت ستقول: أُمِر الناس إذا صَدَروا من مكة أن يطوفوا؛ لأنه يشمل المعتمر وغير المعتمر.
ولذلك الذي تميل إليه النفس أنه لا يصح الاستمساك بقوله عليه الصلاة والسلام: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) بوجوب طواف الوداع.
وذلك لأنه ثبت بدليل الشرع أن المراد به ترك المحظورات، فإن كان لا يشمل أفعال الحج الواجب من رَمْي الجمار والمبيت بمزدلفة ونحوها من الواجبات، فكذلك لا يشمل طواف الوداع الذي هو من خصوص الحج، لكن الأولى والأحرى إذا أحب الإنسان أن يخرج من الخلاف أن يطوف للوداع.
ومن الأدلة أيضاً التي تدل على ضعف قول من يقول بطواف الوداع في العمرة قول: بعض العلماء -وهو استنباط جيد-: إن الذين قالوا بوجوبه على المعتمر اضطربت أقوالهم، فقال بعض العلماء: يجب على المعتمر بمجرد انتهائه من عمرته.
أي: بعد أن ينتهي من العمرة ينزل ويطوف.
وقال بعضهم: لا.
بل أجمعوا على أن المعتمر إذا طاف وسعى ومشى مباشرة ليس عليه طواف وداع.
فاضطربت أقوالهم في المعتمر الذي يَصدُر مباشرة، ثم اضطربت في المعتمر الذي يجلس، قال بعضهم: إن جلس ساعة وجب عليه طواف الوداع.
وقال بعضهم: إن جلس فرضاً وجب عليه طواف الوداع.
وقال بعضهم: إن جلس خمسة فروض، أو يوماً كاملاً وجب عليه طواف الوداع.
فلو كان طواف الوداع واجباً على المعتمر لما تُرِك على هذا الاختلاف، ولحَدّ الشرع فيه حداً معيناً يُنتَهى إليه، ولذلك يَقوى أنه اجتهاد، والأصل براءة الذِّمَم، وإن احتاط المكلف فلا حرج عليه، والله تعالى أعلم.