الأدلة من السنة على أركان الصلاة

الأركان هي أهم شيءٍ في الصلاة، والأصل فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً ذات يومٍ مع أصحابه في المسجد، فدخل رجلٌ فصلَّى واستعجل في صلاته، فلم يحسن ركوعه ولا سجوده ولا جلوسه، فلما فرَغ من الصلاة قَدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ مع أصحابه، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصلّ)، فرجع الرجل وصلى كحاله أولاً، ثم أتاه فسلم فرد عليه، فقال: (ارجع فصلّ؛ فإنك لم تصلّ)، فلما كانت الثالثة قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها).

فهذا الحديث بيّن النبي صلى الله عليه وسلم فيه الأركان التي لا تصح الصلاة إلا بها، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنك لم تصلّ)، فيكون بيانه هنا بياناً للأركان، ولذلك ذكر غير واحدٍ من أهل العلم رحمةُ الله عليهم أن حديث أبي هريرة هذا الذي يسميه العلماء: (حديثُ المسيء صلاته) قد جمع التنبيه على أركان الصلاة، فلذلك اعتنى علماء الإسلام رحمهم الله بهذه الكلمة، وهي مصطلح الأركان والواجبات والسنن.

وهذه المصطلحات ليست ببدع كما يظن بعض من ليس عنده إلمام بالعلم وضبطه، فيظن أن هذه أمور محدثة، فيقول: من أين جاءنا الركن أو الواجب أو السنة؟ فإنا نظرنا في الشرع فوجدناه تارةً يقول: إذا فات هذا الشيء بطلت الصلاة، أو: يجب قضاء الركعة، ووجدناه تارةً يبين أن الشيء الذي فات يمكن جبره بالسجود، ووجدناه يُرخِّص في ترك شيءٍ، فعلمنا أن أعمال الصلاة ثلاثة أشياء: شيءٌ تبطل الصلاة بعدم وجوده، وشيءٌ يمكن جبره بالسجود، وشيءٌ يُتسامح فيه فلو تركه الإنسان ولو متعمداً صحت صلاته.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى ركعتين ثم سلمّ -كما في قصة ذي اليدين- فقال له ذو اليدين: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: كل ذلك لم يكن.

فقال: بلى.

قد كان بعض ذلك.

فسأل الصحابة: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم.

فرجع فصلى ركعتين)؛ وكان قد قام من مصلاه كما في الصحيح، قال الراوي: وأنبئت أن عمران قال: ثم سجد سجدتين وسلم.

فدل هذا على أن الأركان لا تُجبر إلا بالفعل وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر السهو موجباً لإسقاط الركن، بل تعتبر الركعة بمثابة الركن في الصلاة الجامع للأركان، فهي أصل في الصلاة، فكما أن الظهر قائمة على أربع ركعات كذلك كل ركعة قائمةً على أركانها.

ثم وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم تفوته أشياء من أفعال الصلاة ويجبرها بالسجود، فقد صلى عليه الصلاة والسلام إحدى صلاتي العشي، فسجد السجدة الثانية من الركعة الثانية ولم يجلس للتشهد، بل استوى واعتدل قائماً، فلما كبر سبح له الصحابة ليعود إلى جلسة التشهد، فأشار إليهم بيديه من وراء ظهره أن: قوموا.

أي: إني لستُ براجعٍ وقد لَزِمَكم الركن البعدي الذي هو القيام للركعة الثالثة، فقام الصحابة، فأتم بهم الركعتين ثم سجد سجدتين قبل أن يُسلِّم، فهنا فات شيء من أفعال الصلاة، ولكنه اعتبره مجبوراً بالسهو، فعلمنا أن مرتبة هذه الأفعال دون مرتبة الأفعال التي قبلها.

وكذلك أيضاً وجدناه عليه الصلاة والسلام يرى بعض الأقوال في الصلاة لازمة.

وبعضها غير لازمة، فقال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، فلم يعتد بالصلاة ولم يعتبرها عند عدم وجود الفاتحة، ووجدناه يسامح في ترك دعاء الاستفتاح، فقد قال له أبو هريرة: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي).

فقد ثبت قطعاً أن الصحابة لم يعلموا ما الذي يقول، فلو كان هذا الدعاء حتماً كالفاتحة لألزَمهم به وعلّمهم إياه، فدل على أن هناك أموراً تلزم في الصلاة وأموراً لا تلزم، ولذلك قلنا: إن مثل هذا سنة.

فأصبحت القسمة عندنا بتتبع واستقراء الشرع تنقسم إلى هذه الثلاثة الأقسام، فوجدنا ما هو ركنٌ وما هو واجبٌ وما هو سنةٌ.

فلو قال قائلٌ: إن هذا بدعة نقول: إن الأسماء في ظاهرها بدعة -أي: لا نعرفها في القديم- ولكنها في الحقيقة موجودةٌ في حكم الشرع، ولا مشاحةً في الاصطلاح أن تسمي الشيء بأي اسم ما دام أن الشرع قد ترك لك التسمية والحكم موجود.

فإنك لو قلتَ: جميع أقوال الصلاة وجميع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لازم لتناقضت النصوص، ولو قلتَ: إن جميع ما قاله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الصلاة ليس بلازم لتناقضت النصوص.

فإذاً لا بد من التفريق بين اللازم وغير اللازم، وذلك هو مصطلح العلماء بالأركان والواجبات والسنن.

وقوله: [فصلٌ] يبين دقته رحمه الله تعالى، حيث ذكر صفة الصلاة كاملة، ثم جاء يبين ما الذي يَلزَم وما الذي لا يَلزَم، ثم الذي يَلزَم منه ما هو ركنٌ تتوقف الصلاة عليه، ومنها ما ليس بركنٍ وهو الواجب الذي لا تتوقف صحة الصلاة عليه، بحيث لو تركه الإنسان سهواً أمكنه أن يجبره بسجود السهو.

فابتدأ رحمه الله بالأركان، اعتناءً بالأهم، وهذا من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى؛ لأن أهم ما في الصلاة أركانها، ولذلك ابتدأ، فقال: [أركانها].

والضمير عائدٌ إلى الصلاة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015