بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وله رد المار بين يديه].
الضمير في (له) عائد إلى المصلي، سواء أكان في فرضٍ أم في نفل.
وقوله: [وله رد المار بين يديه] قال بعض العلماء: بل يجب عليه ذلك.
وقال بعض العلماء: لا يرد.
وهو قول طائفة من أهل الرأي، فقد كانوا يرون أن هذا من المنسوخ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اسكنوا في الصلاة)، والصحيح أنه ليس بمنسوخ، وأن الحكم باقٍ إلى قيام الساعة، وأنه لا يجوز أن تترك إنساناً يمر بين يديك، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فليقاتله فإنما هو شيطان)، وقوله عليه الصلاة والسلام عن السترة أنها: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)، فإن قوله: (فلا يضره) يدل على أنه إذا مر بينه وبين قبلته ضرَّه.
قال العلماء: إن من صلَّى ومر المار بين يديه تضرر الاثنان، فيتضرر المصلي لأنه قُطِع عن خشوعه، وإذا سكَت عنه أعانه على الإثم والعدوان، ومن أعظم الإثم والعدوان إثم العبادات والاعتداء على حدود الله عز وجل في المقام بين يديه، فقالوا: يأثَم المصلي من هذا الوجه؛ لأنه أعانه وسكت عنه، ويأثم المار عند علمه؛ لأنه فعل ما نُهِي عنه شرعاً من المرور بين يدي المصلي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه).
قال أبو النضر: لا أدري أقال أربعين يوماً أو شهراً أو سنة.
ولذلك شدد الشرع في هذا المرور؛ لأنه يشوش على الناس في صلاتهم ويقطعهم عن الخشوع، وهو عبادة لا نعلم علتها الحقيقية، فمِن الله الأمر وعلى الرسول البلاغ وعلينا الرضا والتسليم، وليس هذا بكثيرٍ على أشرف العبادات، وأكمل المقامات وهي الصلاة.
والمار بين يدي المصلي لا يخلو المصلى معه من أحوال: الحالة الأولى: أن تشعر به قبل المرور، وهذا يتأتى حينما يكون الإنسان قد رمى ببصره إلى موضع سجوده فأحس بالمار من جهة يمينه أو من جهة يساره قبل أن يحول بينه وبين القبلة، فإن شَعَرت به قبل مروره مددت اليد، وهذا المد من باب التنبيه، ولا يجوز لك في هذه الحالة أن تبدأ بالمقاتلة، وهذا على خلاف ما يُرى من بعض الناس -أصلحهم الله- فإنه بمجرد أن يمر بين يديه يضربه، وهذا لا يجوز؛ لأن أذية المسلم والإضرار به محرَّمة، ولا تجوز إلا في الحدود الشرعية التي أَذِن الله بها ورسوله عليه الصلاة والسلام، وبناءً على ذلك لا يبتدئ الناس بالدفع أو ضربهم على صدورهم مباشرة، وإنما يمد مداً قوياً حتى يتنبه المار، فإذا أحسست أن ثبوت اليد يحول بينك وبينه أثبتّ اليد واكتفيت بالإثبات دون حركة، فإن انصرف فبها ونعمت؛ لأنه ربما يكون المار مشوشَ الذهن، وربما يكون شارد الذهن، وربما يكون غير منتبه لما أمامه، فإذا وضعت يدك تنبَّه، فحينئذٍ يرتدع، ولا شك أن ما أُبِيح للضرورة يُقدَّر بقدرها، فإن أصر على المرور في هذه الحالة دفعته، فإن أصر قاتلته، فلك حق الدفع، ولو كان ذلك على وجه الإضرار.
واختلف العلماء لو أنه دفعه وسقط وانكسر، أو أصابه ضرر، فقال بعض العلماء: أَذِن الشرع بالمقاتلة ودمه هدر، فإن مات فلا يلزم الدافع الضمان ولا يجب عليه القصاص.
وقال بعض العلماء: إنه ضامن، فلا إثم عليه في الدفع، ولكنه يضمن.
وهذا القول أقوى الأصول؛ لأن إسقاط الإثم عليه لا يستلزم إسقاط الضمان، وبناءً على ذلك تَردُّه وتدفعه، فإن حصل له ضرر فإنه من يدك، وابتلاءٌ ابتلاك الله به، كما يُبتَلى الرجل بالسقم في جسمه والبلاء في جسده فيضمن؛ لأن الأصل الضمان حتى يدل الدليل على الإسقاط، وليس هنا دليل يدل على إسقاط الضمانات، فالدليل عندنا في الإذن بالمقاتلة، لكنه لا يستلزم إسقاط الضمان، وفرقٌ بين قوله: (فليقاتله)، وبين قوله: (فليقتله)، فإن المقاتلة هي المدافعة، وهو أسلوب عام، أي أعم من أن يكون دالاً على الإسقاط.
واختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (فليقاتله).
فقال بعضهم: ليس المراد أن يقاتل بمعنى أن يدافعه في الصلاة، وإنما المراد أن المار على حالتين: فإن دفعته فلا إشكال، وإن لم يندفع، وغلب فإنهم قالوا: فليدْع عليه في صلاته، فإن القتل يُستعمل بمعنى اللعن، وبمعنى الدعاء، ومنه قوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]، وقوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] أي: لُعِن، فقالوا: إنه بمعنى الدعاء عليه، فإذا غَلَب المكلَّف فحينئذٍ يدعو عليه لعظيم الضرر الذي أصابه.
ولكن القول الثاني -وهو أن المراد بالمقاتلة المدافعة- أقوى، وهو قول الجماهير، وليس المراد به استباحة دمه والخروج عن كونه مصلياً.
فإن كان المار قوياً، وكنت ضعيفاً وغلبك فحينئذٍ قالوا: الإثم على المار دون المصلي.
وفي بعض الأحيان في حال الجلوس بين السجدتين أو التشهد لا تستطيع المصلي أن يدفع إلا إذا كان الإنسان قوياً يستطيع أن يقاتل، فحينئذٍ لا حرج؛ فلقد رأيت رجلاً ضعيف البنية أمسك بساق رجل حتى كاد أن يموت الرجل بسبب ما أعطاه الله من القوة، لكن الإشكال إذا غلبه، فقالوا: إذا غلبه فالإثم على المار دون المصلي.
وقد ذكر العلماء حالات المرور بين يدي المصلي فقالوا: لا يخلو المصلي والمار بين يديه من حلالت، ففي حالة يأثمان، وحالة لا يأثمان، وحالة يأثم المار دون المصلي، وحالة يأثم المصلي دون المار.
فالحالة الأولى التي لا يأثمان فيها صورتها أن يكون المصلي كفيف البصر، ويمر المار وهو لا يدري أنه مارٌ بين يدي المصلي.
فسقط الإثم عن الأعمى؛ لأنه لا يرى، وهذا ليس بإمكانه، وسقط الإثم عن المار لكونه لا يعلم.
الحالة الثانية التي يأثمان فيها: أن يبصره وهو قادرٌ على دفعه ولا يدفعه، ويمر المار دون وجود عذر، مع علمه أنه مارٌ بين يدي المصلي، فيأثمان معاً.
الحالة الثالثة التي يأثم فيها المار دون المصلي: أن يكون المصلي كفيفاً والمار مبصراً عالماً، فيأثم المار دون المصلي.
وأما الحالة الرابعة التي يأثم فيها المصلي دون المار، كأن يكون المار كفيف البصر، أو لا يعلم فيمر دون أن يدفعه، فحينئذٍ يأثم المصلي دون المار.
فذكرنا أن السنة رد المار بين يدي المصلي، وعبَّر المصنف بهذا الرد على العموم، فيشمل كل ما مرّ بين يديك، سواءٌ أكان إنساناً أم حيواناً، فإذا مرَّ الشيء بين يديك فإنك تدفعه، خاصةً إذا كان مما يقطع الصلاة فإن الأمر فيه أشد، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه.
أما بالنسبة لغير الآدمي، وهي الحيوانات، فهي على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: ما يمكن ردُّه بمد اليد، كالبعير وكالبقرة إذا كانت مماثلة لموقف المصلي، فإذا مد يده تنبه البعير وانصرف عنه، وكذلك البقرة، وفي حكمها أيضاً الحمار والبغل ونحوه مما هو عظيم الجثة بحيث يماثل الإنسان حال قيامه.
الضرب الثاني: أن يكون مما لا يُمكن رده من الحيوانات، كالطائر إذا مر بين يدي الإنسان، فإنه يتعذر عليه أن يرده بيده.
الضرب الثالث: أن يكون مما يمكن رده في حال القيام مع حدوث الانتقال من ركنٍ إلى ركن، وذلك كالهره، فالهرة الصغيرة إذا مرَّت لا تستطيع أن تردها إلا إذا انحنيت إليها، وكذلك البهمة الصغيرة من الغَنَم كالسخلة ونحوها، فإنك تضطر إلى أن تنحني، فتنتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع، وربما تُبالغ في الانحناء لردها كالقطة، فحينئذٍ هناك أوجه: قال بعض العلماء: يجوز له أن يدفعها ولو بالرَّمي، فينحني مسرعاً في انحنائه، أي: ينتقل بسرعة ويأخذها ويرميها، ثم يرجع إلى قيامه ويُغتَفر هذا الانتقال.
وهذا قال به بعض السلف.
القول الثاني: أنه يَرُد بقدمه، ولا يرد بيده، فينتقل الرد من كونه بيده إلى كونه بقدمه، فيدفعها بقدمه، فإذا جاءت تمر فإنه حينئذٍ يجعل قدمه في منتصف الهر ونحوه ثم يرمي به فيُغْتَفر هذا، ويكون كالمدافعة باليد.
القول الثالث: أنه يتقدم حتى يلتصق بالحائط أو بسترته، فتمر البهمة من ورائه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لذلك.
وأقوى هذه الأقوال وأعدلها والقولان الأخيران، فإما أن يكون الدفع بالقدم، وإما أن يكون الدفع بأن يتقدم حتى يلتصق ثم تمر هي من رواءه كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام.
والرد المشروع أن يكون قبل دخوله فيما بين الإنسان وبين سترته، أما لو جاوز هذا المكان ومر، فقال بعض العلماء: يردُّه.
وقال بعضهم: لا يرده؛ لأنه إذا رده حصل مروران بين يدي المصلي.
وهذا أقوى، أعني الأخير؛ فإنه إذا فات الإنسان ومر، فحينئذٍ قد سقط التكليف وأصبح من المتعذر؛ لأن الإخلالات تنقسم إلى قسمين: ما لا يمكن تداركه فلا تكليف، وما يمكن تداركه فإنه يُكلَّف به الإنسان، وهذا مما لا يمكن تداركه؛ فإن المرور قد فات، فحينئذٍ لا يُطَالَب برده، ولأن رده يتضمن مفسدةً من الانشغال مع حصول مرورٍ زائد، وبناءً على ذلك لا يشتغل برده ثانيةً.
الأمر الثاني الذي يُرَاد التنبيه عليه: أن يكون المرور فيما بين يدي المصلي، فلو مر من وراء سترته فإنه بالإجماع لا يُؤثِّر؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في السيرة: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)، فدل على أن المرور وراء السترة لا يُؤثِّر، وثبتت في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر حينما مرّ الناس من وراء السترة، فالسترة جُعِلت كغاية، فالدفع يكون فيما بينه وبين هذه الغاية، ولا يُشرع له الدفع فيما زاد عن هذه الغاية.
ويبقى النظر لو كان الإنسان يصلي إلى غير سترةٍ، أو كانت سترته بعيدة، فهل يُشرع له أن يتقدم حتى يَرُد؟
و صلى الله عليه وسلم السنة للإنسان أن تكون سترته على ممر الشاة من موضع سجوده، وهذا يأتي بأكثر من ذراع، فهذا القدر يتركه ويسجد، كما جاء في حديث سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (جعل هذا القدر ممر الشاة) قالوا: العلة في هذه -والله أعلم- أن لا يُشبِه عبدة الأ