صفة الجلوس للتشهد

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ثم يجلس مفترشا ويداه على فخذيه] أي: إذا تم من الركعة الثانية يجلس مفترشاً كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك غيرها في صفة جلوسه عليه الصلاة والسلام أنه (افترش اليسرى ونصب اليمنى، واستقبل بأطراف أصابعه القبلة)، صلوات الله وسلامه عليه.

وكان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون ذلك، حتى أُثر عن بعضهم أنه كان إذا انحنى إبهامه أصلحه حتى يكون مستقبلاً القبلة، ويكون معتمداً عليه في جلوسه، وهذه إحدى الجلسات.

كذلك أيضاً جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه جلس بين السجدتين، فنصب قدميه وجعل صدور القدمين على الأرض مستقبلاً بها القبلة وإليته على العقبين، وهذا ليس بالإقعاء المنهي عنه، فقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وأنه من السنة فلا حرج فيه، وإنما الإقعاء المنهي عنه أن يجعل طرفي القدمين ويفضي بإليتيه إلى الأرض، فهذا الصورة للإقعاء.

الصورة الثانية: أن ينصب رجليه، ثم يفضي بإليتيه إلى الأرض.

الصورة الثانية: أن تكون بطون القدمين إلى الأرض، وتلتصق العقبان بالإلية، هذه كلها صور للإقعاء المنهي عنه.

أما لو نصب واستقبل بأطراف أصابعه القبلة؛ فإن هذا ورد فيه حديث ابن عباس أنه من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال رحمه الله: [ويداه على فخذيه] أي: تكون يدا المصلي على الفخذين، وهذه جلسة التشهد، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل هذا الفعل، فشرع رحمه الله في الصفة الفعلية، فجلسة التشهد تحتاج إلى فعلٍ وقول، أما الفعل فشيءٌ منه يتعلق بمؤخر الإنسان وشيء يتعلق بمقدمه، فالذي يتعلق بمؤخَّره فقد ذكرناه من افتراش اليسرى ونصب اليمنى، واستقبال القبلة بأطراف أصابع اليمنى.

أما ما يتعلق بمقدمه فنبدأ بوضع اليد اليسرى، وفيه ثلاثة أوجه: الوجه الأول: قال بعضهم: يُلقِمها ركبته كما جاء في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه ألقَم ركبته، والإلقام: أن تجعلها بمثابة الفم على الركبة، كأن نصفها على آخر الفخذ، ونصفها الذي هو أطراف الأصابع ملتصق بظاهر الركبة، وهذه الصورة تعرف عند العلماء بصورة اللقم.

الوجه الثاني: أن يجعل رءوس أصابعه عند ركبته مستقبلاً بها القبلة.

الوجه الثالث: أن تكون على الفخذ، بمعنى أنها لا تكون قريبة من الركبة، وإنما تكون على الفخذ.

هذه ثلاثة أوجه للعلماء رحمةُ الله عليهم.

واليد اليسرى بالإجماع أنه لا يشرع التحريك فيها، والأصل في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرّ على الرجل وهو يشير بإصبعيه قال: (أحِّد أحِّد) أي: اجعله واحداً، فنهى عن رفع إصبعه الثانية؛ فدل هذا على أنه ليس من السنة أن يشير بالأصبعين من اليدين، وإنما يقتصر بالإشارة على الكف الأيمن.

قال رحمه الله: [يقبض خنصر يده اليمنى وبنصرها] بالنسبة للوسطى مع الإبهام يحلق بهما، ويشير بالسبابة.

والسبابة: هي ما بين الإبهام والوسطى، فالعرب تسمي أصغر الأصابع: الخنصر؛ ثم التي تليها البنصر، ثم الوسطى، ثم السبابة، ثم الإبهام، والسبابة سُمِّيت بذلك لأن الإنسان عند السب أو اللعن -والعياذ بالله- مع شدة الغضب يشير بها، كالمتوعد، ووُصِفت بهذا وأصبح اسمها، فيقبض الخنصر والبنصر، ثم يحلق ما بين الوسطى والإبهام، ويشير بالسبابة.

[ويحلق إبهامها مع الوسطى ويشير بسبابتها في تشهده] بعض العلماء يرى أنها تكون كالدائرة، وقال بعضهم: أن يجعل طرف الإبهام عند منتصف السبابة، وهذا مبني على رواية: إحدى وخمسين، بناءً على حساب العرب في عدّ الأصابع.

وبعضهم يرى أنه يكون جامعاً بها على هذه الصفة، بحيث تجتمع الأنملة العليا من الوسطى مع طرف الإبهام، وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحليق، وثبت عنه في الأحاديث الصحيحة، ويشير بالتوحيد عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (أحّد) والسبب في هذا أن الأصل عدم التحريك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسكنوا في الصلاة) وقال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].

قالوا: الأصل السكون وعدم الحركة والكلام حتى يدل الدليل على حركة وكلام معتبر، فلما جاء الدليل ووجدنا أنه عليه الصلاة والسلام أمره بالتوحيد، فدلّ ذلك على أنه عند الشهادة، وهذا على الأصل، ولذلك قالوا: يرفعها عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) وهذا هو أوجه الأقوال وأعدلها وأقربها إلى السنة إن شاء الله تعالى.

وللعلماء في هذه الإشارة أوجه: منهم من يرى أنه يُشار بها شديدا، يعني: بقوة، ومنهم من يرى أنها لا تُشد ولا تُرخى وإنما يُتوسط فيها، كما جاء في حديث ابن عمر عند البيهقي وغيره؛ ولذلك قالوا: منكتاً بها إلى الأرض، وهذا أولى الأقوال، ولو فعل الأول فلا حرج، لكن أولى الأقوال أنه يُنَكِّت بها إلى الأرض، ويرمي ببصره إليها، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينظر إليها كما في حديث السنن.

إذاً: ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجعل مرفقه عند فخذه صلوات الله وسلامه عليه، ثم يعقد خنصره وبنصره، ويحلق بالوسطى مع الإبهام ويشير بالسبابة.

وهناك صورة أخرى اشتمل عليها حديث وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه، وحديث أحمد في المسند، وكذلك غيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد ثلاثاً وخمسين، وهذا يعني: أن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى، ويجعل الإبهام عند أصل الوسطى.

الصورة الثالثة: أنه يستقبل بالأصابع القبلة، ويجعل أصابعه مستقبلة القبلة، ويُشير بالسبابة، وهذه الصورة اختارها بعض العلماء رحمهم الله استحساناً، من جهة استقباله للقبلة، قالوا: لأنها هيئة الساجد.

والأقوى ما ذكرناه من الصفتين أنه إما أن يُحلّق بين الوسطى وبين الإبهام ويشير بالمسبحة، وإما أن يعقد ثلاثاً وخمسين.

والسبب في ذلك أن الخنصر واحد، والبنصر الثاني، والوسطى الثالث، والعرب إذا أرادت أن تعد تعقد الإبهام إلى أصل الأصابع، فيكون فيه إشارةً إلى الخمسين، فأصبح المجموع ثلاثاً وخمسين.

هاتان الصفتان هما أقوى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة كفه اليمنى أثناء التشهد.

أما بالنسبة للكف اليسرى فلها كما قلنا إما أن يجعلها على فخذه، وإما أن يجعل أطراف أصابعه عند ركبته، وإما أن يلقم بها الركبة، وكلٌ قد جاءت به سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما الإشارة باليسرى فإنه لم يثبت بها دليل، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس وغيره أنه رأى رجلاً يشير بإصبعيه يدعو بهما، فقال عليه الصلاة والسلام: (أحّد أحد) وهو حديث عند النسائي، وهذا على سبيل المناسبة؛ فإن الله واحد؛ ولذلك جعل الإشارة بتوحيده بالإصبع الواحدة، ولم يجعله بإصبعين، حتى تكون هناك مناسبة بين العدد الذي يشير به وبينما يدل عليه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015