قال رحمه الله: [يصح من مكلف] يصح الإقرار من كل مكلف بالغ عاقل، فلا يصح من مجنون، ولا سكران.
أما الدليل على سقوطه عن المجنون والسكران: فلأن كل منهما لا يعلم ما يقول، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]؛ فدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، فلربما أقرّ بأشياء لا حقيقة لها، سواء كان سكره على وجه يعذر به شرعاً، كمن أعطي المخدر لعملية جراحية وقبل الإفاقة أقرّ بأشياء، فإنه لا يُقبل إقراره، وذلك للشبهة، ولا يوثق بقوله.
أو كان سكره تعمداً فإنه لا يؤاخذ بإقراره على الصحيح من أقوال العلماء.
ودليلنا على سقوط إقرار السكران: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه وأرضاه: أن ماعز بن مالك نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فقال: (إني أصبت حداً فطهرني، فقال صلى الله عليه وسلم: أبه جنون؟ -يسأل جماعته وقرابته ممن كان قد أسلم- فقالوا: لا) ليس به جنون ونعرفه عاقلاً.
وهذا يدل على أن المجنون لا يقبل إقراره، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أشربت خمراً؟ -لأنه قال: إني أصبت حداً فطهرني- فقام رجل فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه، فلم يجد رائحة خمر.
وهذا يدل على أنه لا يقبل الإقرار من سكران.
ومن الأدلة أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط مقالة الردة عنه كما في الصحيحين في قصة حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا يدل على أنه لا عبرة بإقرار المجنون والسكران.
أيضاً: لا يُقبل إقرار الصبي؛ لأنه لا يوثق بخبره، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: -وذكر منهم- والصبي حتى يحتلم) فالصبي لا يوثق بقوله، فلا عقل عنده ولا حلم يمنعه ويردعه.
قال رحمه الله: [مختار].
أي: غير مكره، فالمكره لا يُقبل إقراره، وقد بينا أدلة سقوط مؤاخذة الإكراه في أكثر مسائل الأموال والحدود، فإذا أكره فإنه لا يؤاخذ على ما يقول؛ لأن الله أسقط أحكام الردة -وهي قول من أقوال المكره بالإكراه- فدل على أن قول المكره لا يُعتد به، ولذلك لا ينفذ طلاقه ولا عتقه ولا إقراره، وقد أسقط الله عز وجل قول المكره في الردة وهي أعظم شيء؛ لأن المكره قلبه مطمئن بالإيمان، وهذا له ضابط، أولاً: أن تستوفى شروط الإكراه وقد قدمناها في مباحث الإكراه على الطلاق.
ثانياً: أن يتقيد بما أُكره عليه، فإذا أُكره على أن يقر بسيارة، فأقر بسيارة ومزرعة، أُخذ بإقرار المزرعة، ولم يؤخذ بإقرار السيارة؛ لأنه يتقيد بحدود ما أُكره عليه، فما زاد فإنه يؤاخذ به في إقراره.
قال رحمه الله: [غير محجور عليه] فلا يصح إقرار السفيه بالمال؛ لأن أصل الحجر عليه هو منعه من التصرف في أمواله، وهذا نص قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، فأسقط تصرفاتهم المالية؛ فإذا جئنا نصحح إقرار السفيه بالمال فإنه حينئذٍ ربما يقول لفلان عليّ عشرة آلاف، ويضيع ماله؛ لأنه سفيه، ومن هنا حُجر على السفهاء في إقراراتهم المالية أو ما يئول إلى المال، أما لو كان إقراره بحد أو قطع فيصح إقراره؛ لأن المراد هنا إسقاط إقراره في الأموال وما يئول للمال، وهو الذي حجر عليه فيه، ولو قيده فقال: (غير محجور عليه فيما أقر به) لكان أدق؛ فإن هذا الذي عليه العمل عند العلماء، أما إقرار المحجور عليه في غير ما حجر عليه؛ فإنه عاقل ومكلف ومستوفٍ للشروط فيؤاخذ بإقراره، فلو أقر أنه قتل عمداً وعدواناً فإنه يقتص منه، وإقراره صحيح ما دام أنه مستوفٍ للشروط.
قال رحمه الله: [ولا يصح من مكره، وإن أكره على وزن مال فباع ملكه لذلك صح].
ذكرنا أنه يتقيد الإكراه بما طلب منه، فالشخص يزن مثلاً الدراهم والدنانير ثم يصرفها ويبيعها، فأُكره على أن يزن فوزن ثم باع، فالبيع صحيح؛ لأن الذي أكره عليه هو الوزن لا البيع، فبيعه لم يصادف محلاً للإسقاط، والأصل إعماله، فيعمل العقد ويبقى على صحته.
إذاً: شرط صحة تأثير الإكراه في الإقرار أن لا يتجاوز المحل الذي أُكره عليه أو القدر الذي طلب منه أن يقر به.