قال رحمه الله: [إلا النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء وأصل الرق والولاء والاستيلاد والنسب والقود والقذف].
قوله: (إلا النكاح) أي: أنه لا يحلِّف فيه، فلو قال: نكحتها، وقالت: إنه ليس بزوجي، أو قال: تزوجتك، وقالت: ما تزوجتك، فإنه لا تطالب المرأة باليمين؛ لأن الأصل عدم النكاح.
قوله: (والطلاق).
أي: لو قالت: طلقتني، وقال: ما طلقتك، وحلف على نفي الطلاق، أو ادعى أنه طلقها في أول السنة، فليس لها النفقة، فقالت: بل طلقتني في جمادى فلي نفقة الستة الأشهر، فحينئذ إثبات الطلاق ونفيه من حيث أصل وجود النكاح، وقالوا: إنه لا يحلف على تطليقه لها عند نفي التأخير، وإنما تطالب المرأة بالبينة على الأصل؛ لأنه إذا قال: طلقت في محرم، فإن له ذلك، والأصل أن الزوج مطلق؛ لأنه الذي يملك العصمة، فقالوا في هذه الحالة: لا يطالب باليمين على النفي والإنكار.
وعلى هذا: فإن أي أصل اعتضد بأصل آخر فإنه يكتفى به وتسقط اليمين، هذا على مذهب الحنابلة، ومن أهل العلم من قال بالعموم في الحقوق كلها، وأنه يطالب الخصم النافي بالبينة، وهذا يشهد له عموم النص.
وقوله: (والرجعة).
أي: لو أنه طلقها ثم ادعى أنه راجعها، فقالت: ما راجعتني، فقال: بل راجعتك وأنت زوجة لي الآن، فقالت: ما راجعتني، فنقول للزوج: هل عندك بينة على أنك راجعت المرأة قبل خروجها من عدتها؟ فإن قال: ما عندي شهود، فحينئذٍ لا نقول للمرأة: احلفي أنه ما راجعك، أي: احلفي على نفي الرجعة؛ لأنه من المعلوم أن نفي الرجعة نفي للنكاح، إذاً نفي الطلاق هذا يطالب فيه بالبينة؛ لأن الأصل معها، والأصل أنها أجنبية ما دام أنه فرط في الإشهاد على الرجعة؛ لأن الله أمره أن يشهد، قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2].
وقوله: (والإيلاء).
كذلك لو قالت: أَحْلِف أن لي أربعةَ أشهر ما مسني، وقال الزوج: أنا ما آليت، فالذي نفى الإيلاء -وهو الزوج- لا يطالب باليمين، وإنما نقول للمرأة: ائتي بالبينة أنه آلى منك وأنه حلف يمين الإيلاء، وقد تقدم معنا الإيلاء.
وقوله: (وأصل الرق) أي: إذا ادعى أن فلاناً رقيق له، فقال: بل أنا حر، فإننا نقول للذي ادعى الرق: هات بينتك على أن هذا رقيق أو مملوك لك، فإن قال: ليس عندي بينة، فحينئذٍ لا نقول: إن هذا الشخص رقيق؛ لأن الأصل أنه حر، والأصل أنه غير رقيق حتى يدل الدليل على رقه، ولا نطالبه باليمين على نفي الرق، هذا الذي انتزعه الحنابلة من معارضة الأصل.
وقوله: (والولاء).
لو قال: إن فلاناً مولى لي، فقال: لست بمولى لك، فإنه يأخذ نفس الحكم على الذي ذكرنا في الرقيق؛ لأن الأصل عدم هذه الأشياء.
وقوله: (والاستيلاد) أي: الاستيلاد من الأَمَةِ، كأن يقول: لي منها ولد، فقالت: ليس لك مني ولد، والعكس، فإنه لا يطالب النافي باليمين؛ لأن الأصل يشهد بصحة قوله؛ إذ أن الأصل عدم وجود الولد، وعدم وجود النسل منها حتى يثبت.
وقوله: (النسب) قالوا: النسب لا يحلَّف فيه، وهذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من قال بالتحليف، فإذا قيل له: أنتسب لفلان؟ فقال: لست منه، ولست بولده، فإنه لا يطالب بالدليل؛ لأن الأصل أن يطالب المدعي بالبينة، والذي نفى فهو بنسبه المدعَى صحيح أنه فلان بن فلان، والناس مؤتمنون على أنسابهم، فإذا جاء أحد يدعي أنه ليس ابن فلان، إنما هو ابن فلان، فهذا خلاف الأصل، فهو يذكر أمثلة على ما قال في الأصل، إذا خالف قول المدعي الأصل فإنه في هذه الحالة لا يحلّف، بناءً على ما يقرره الحنابلة رحمهم الله في المسألة التي تقدمت معنا: أن المدعي من إذا سكت لم يترك، والمدعى عليه من إذا سكت ترك.
وقوله: (والقود) كذلك أيضاً الأصل حرمة الدماء وعصمتها، فإنه لو قال: إن فلاناً هو الذي قطع يد فلان، فقال: ما قطعتها، أو قال: أنت الذي قطعت يد فلان، وأنت الذي قطعت رجله، وأنت الذي اعتديت على إصبع فلان عمداً عدواناً، فنقول له: ائت ببينة تثبت قولك، ولا يمين لك على خصمك؛ لأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
وقوله: (والقذف) قالوا: إن مثل هذا لا يثبت فيه اليمين، والقذف فيه إشكال؛ لأن القذف من الحقوق المشتركة، لكن ارتفع الإشكال في القذف لأنه الأصل، فلو قذف شخصٌ شخصاً فقال له: أنت زان، فقال: ما زنيت، فترافعا إلى القاضي، فإن القاضي يقول للذي يدعي الزنا: إما أن تثبت الزنا وإما أن يقام عليك حد القذف، إذا طلبه صاحبه، فإذا قذف فإنه في هذه الحالة لا يطالب الخصم بيمين الإنكار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، وما وجه اليمين على المدعَى عليه.