قال رحمه الله: [وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض].
هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة الرجوع عن الشهادة، أن يشهد الشهود ثم بعد شهادتهم يقولون: رجعنا، فهذه على صورتين: الصورة الأولى: أن يقولوا: كذبنا وزورنا، ونحن قد تبنا إلى الله ورجعنا عن شهادتنا، فهذا اعتراف بالخطأ، بمعنى: أنهم تحملوا وأدوا الشهادة زوراً وكذباً.
أو أن يكون منهم الرجوع لتبين خطأ، فيقولون: رجعنا، فإن الذي قتل فلاناً ليس بفلان، نحن أخطأنا وما تعمدنا شهادة الزور، وإنما تبين لنا أن الذي قتل فلاناً هو فلان، وأننا أخطأنا في الشهادة الأولى.
وهذا الرجوع إما أن يكون قبل الحكم بالشهادة، وإما أن يكون بعد الحكم، فإذا كان بعد الحكم إما أن يكون قبل تنفيذ الحكم فإما أن يكون بعد تنفيذ الحكم.
الحالة الأولى: أن يرجع الشهود قبل الحكم بشهادتهم: فإن القاضي لا يحكم بشهادتهم قولاً واحداً عند العلماء، مثاله: لو ادعى شخص على شخص ديناً، ثم أقام شاهدين فشهدا عند القاضي وقالا: إن فلاناً له على فلان كذا، وقد سبق أن قلنا: إنه إذا شهد الشهود فيبحث القاضي عن الشهود هل هم عدول؟ هل هم أهل للشهادة أو لا؟ فإذا قالوا بعد ذلك: رجعنا عن شهادتنا، فهذا قبل الحكم، أو قال المدعى عليه: هؤلاء الشهود فسقة لا تقبل شهادتهم، وسأُقيم البينة على فسقهم، فلما أعطى القاضي مهلة ثلاثة أيام حتى يثبت -كما تقدم معنا في أدب القاضي- رجع الشهود، إذاً شهدوا وقبل أن يحكم بشهادتهم رجعوا.
فإن رجعوا وقالوا: إنهم مزورون، فحينئذٍ يترتب حكمان: الأول: رد الشهادة.
الثاني: تعزيرهم من القاضي، وقد اختلفت عبارة العلماء في التعزير، حتى قال بعضهم: له أن يشوه، كأن يحلق لحى الشهود، ويمشي بهم في الأسواق، ويقال: هؤلاء كذبة وشهود زور.
والصحيح: أنه لا تحلق اللحية، وإنما يطاف بهم في الأسواق إذا رأى المصلحة، ويقول: هؤلاء شهود زور وكذبة؛ لأنهم كذبوا على القاضي، وهذا يفضي إلى اختلال الأحكام الشرعية، واستغلال القضاء للسوء؛ ولأنه قد تستباح الدماء، وقد تستباح الفروج، فالطواف بهم بين الناس يردع غيرهم عن هذا الفعل الذي به قوام العدل عن هذا الفعل، الذي يؤدي إلى ضياع العدل وانتهاك الحرمات، فبعض العلماء رحمهم الله يقولون: إنهم يعزرون بالطواف، والأصل يقتضي أن الأمر إلى القاضي فيعزرهم بما يرى من المصلحة.
أما إذا كان رجوعهم بالخطأ، وقالوا: نحن شهدنا وتبين لنا الخطأ، فحينئذٍ لا يعزرون، لكن يسقط شهادتهم، وإذا أسقط شهادتهم تبين أنهم أناس فيهم خلل في الشهادة؛ لأنهم اعترفوا على أنفسهم أنهم أخطئوا، فمعنى ذلك: أنهم أناس لا يضبطون الشهادة، وحينئذٍ لا تقبل شهادتهم بعد ذلك.
الحالة الثانية: أن يكون رجوعهم بعد الحكم بالشهادة وقبل تنفيذ الحكم، فحينئذٍ إذا شهدوا بحق مالي، وشهدوا أن فلاناً باع سيارته، وأن فلاناً باع أرضه، فإن رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم ساقط، ولا يؤثر في الحكم؛ لأنه إذا شهد أن لفلان على فلان ألفاً، وكانت شهادتهم مزكاة معتبرة شرعاً، فحينئذٍ ثبت عندنا أن لفلان على فلان ألفاً، فإذا قالوا: كذبنا وزورنا، فقد طعنوا في أنفسهم بالفسق، وحينئذٍ جرحوا أنفسهم، فلا يقبل رجوعهم؛ لأنهم شهدوا على أنفسهم أنه لا يقبل قولهم، ونحن قد قبلنا قولهم قبل ذلك بالتعديل، فحينئذٍ لا نرجع إذا غلب على ظننا صدقهم إلى أمرٍ تبين أنهم فسقة، وأنهم لا تقبل شهادتهم، فلو شهدوا بحق لمحمد، ثم قالوا: كذبنا وزورنا، فإن قولهم: كذبنا وزورنا إنما شهدوا على أنفسهم بالفسق، ومن شهد على نفسه بالفسق فقد أسقط شهادته، فحينما يقولون: كذبنا وزورنا، والحق إنما هو لفلان وليس لفلان، فحينئذٍ سقطت شهادتهم الثانية وبقيت شهادتهم الأولى على الأصل؛ وكذلك الحكم إذا ثبت أنهم قالوا: زورنا فإنهم يعزرون.
ولو قالوا: أخطأنا، والحق ليس لفلان وإنما هو لفلان، وكان هذا بعد حكم القاضي بالحق المالي، فنقول: إذا حكم القاضي بالمال وسدد، فحينئذ لا ينقض الحكم؛ لأنه ثبت بصورة شرعية معتبرة.
وقولهم: أخطأنا، فهم شهدوا على أنفسهم بسقوط شهادتهم، فهناك سقطوا بالتزوير، وهنا سقطوا بخفة الضبط؛ لأن من شرط قبول الشهادة أن يكون الشاهد ضابطاً لشهادته؛ لأن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فتسقط الشهادة الثانية وتبقى الشهادة الأولى، ويثبت الحق لصاحبه، ولا يؤثر في حكم القاضي؛ لأن الأحكام القضائية لا تنقض إلا في مسائل خاصة، وهذه ليست منها، وحينئذٍ يبقى الحكم على ما هو عليه وينفذ.
الحالة الثالثة: أن يكون رجوعهم بعد الحكم، وأن يكون الحكم مشتملاً على حد أو قصاص، فحينئذ يسقط الحد ويسقط القصاص؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
فلو قالوا: زورنا وكذبنا، فإن فلاناً ما سرق، فحينئذٍ لا تقطع اليد، أو أن فلاناً ما زنى، فإنه لا يرجم؛ ولذلك سبق أن قلنا: إنه عند الرجم يؤتى بالشهود بحيث لو كانوا كذبة فقد يرجعون عن شهادتهم، فإذا قالوا: إنهم كذبوا، فحينئذ يسقط تنفيذ الحد، وإذا كان في الحد حق مالي، مثل السرقة؛ فإنه يثبت المال لصاحبه، ولكن لا يقام الحد.
والخلاصة: أنهم إذا رجعوا قبل الحكم وجهاً واحداً لا ينقض، وإذا رجعوا بعد الحكم، فإن كان بعد الحكم وقبل التنفيذ مضى الحكم ونفذ، إلا أن يكون مشتملاً على حدٍ أو قود دون قصاص، فحينئذٍ لا ينفذ؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
ولو حكم الحاكم بشهادتهم ونفذ الحكم في القتل، وجاءوا وقالوا: رجعنا عن شهادتنا، فعلى صورتين: الصورة الأولى: إما أن يقولوا: كذبنا وتعمدنا قتله، فإنهم يقتلون؛ لأنهم تسببوا في قتله، ولولا شهادتهم لما حصل قتل، وهي السببية المفضية إلى الزهوق، وقد تقدم معنا شرحها في كتاب القصاص، وحينئذٍ قال علي رضي الله عنه كما في القصة عنه: أنه شهد عنده شهود أن فلاناً سرق فقطع يده، ثم جاءوا وقالوا: أخطأنا، فقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما.
صحيح أن الذي قطع هو الذي أمره القاضي بالقطع، وهذه السببية يسمونها: السببية المفضية للزهوق، فالسببية المؤثرة المفضية للزهوق لا شك أنها توجب القصاص، فحينئذٍ يقتص منهم إذا تعمدوا قطع الأطراف، لكن لو قالوا: أخطأنا، فحينئذٍ لا يقتص، فيسقط القصاص، ولكن يجب عليهم الضمان.
قال رحمه الله: [ويلزمهم الضمان دون من زكاهم] يرد
Q هل الذين زكوا الشهود يحكم بوجوب القصاص عليهم؟ إذا قالوا: تعمدنا، ونعلم أنهم فسقة وأعنَّاهم على هذا، فحينئذٍ هم شركاء، لكن لو قالوا: نحن نعلم أنهم فسقة وزكيناهم مجاملة، ولا نعلم أن هذا سيفضي إلى الزيغ، فللعلماء أوجه: فمن أهل العلم من قال: إنه يقتص منهم، ومنهم وقال: لا يقتص منهم، من الذين يرون القصاص قالوا: إذا كان المزكون علموا أنهم ليسوا بأهل الشهادة وزكوهم، فإنه يقتص منهم.
والخلاصة: أن المزكي يلزمه الضمان إذا علم أن شهادته زور؛ لأنه أعانه على الزور؛ ولأنه أعانه على الإثم، وحينئذ يكون الحكم كما ذكرنا في قتل الجماعة، وأن كل سببية تفضي وتعين على الزهوق فتأخذ حكم الاشتراك.