قال رحمه الله: [ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار فيه ونحوه رجلان، أو رجلٌ وامرأتان، أو رجلٌ ويمين المدعي].
قوله: (ويقبل في المال وما يقصد به) أي: ما يقصد به من الأموال، أو ما يئول إلى المال، فبعضهم يقول: يقصد به المال، وبعضهم يقول: يئول إلى المال، فيشهد في ذلك رجلان، أو رجل وامرأتان، أو أربع نسوة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282]، هذا الأصل أن الرجل يريد أن يكتب ديناً لآخر عليه، فبين الله سبحانه وتعالى أن هذا الحق -وهو الدين- يثبت بشهادة الشاهدين، فبين كيف تكون كتابة أو توثيق هذا الدين وهذا الحق، وذلك بكتابته وصفة الكاتب وما ينبغي على الكاتب، وما ينبغي على المملي.
وبعد هذا قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] أي: أن يملي الشخص ويكون ذلك بحضور شاهدين يشهدان على ما يقر به ويكتب، وبعض العلماء يقول: الحجة في الشاهدين، تعظيماً لأمر الشهادة على الكتابة، فإن الكتابة بذاتها ليست حجة؛ لأن الخطوط تتشابه والخطوط تزور، وإنما الحجة جاءت في الشاهدين، ومن هنا كانت الآية أصلاً في قبول الشهادة، فلما كان صدر الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:282] هذه الآية في الحقوق المالية صارت أصلاً، ومن هنا قالوا: يقبل في الأموال الشاهدان.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282]، فدل هذا على أن الحقوق المالية يُقبل فيها شهادة النسوة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكر النساء إلا في هذا النوع من الحقوق، وقد ذكر الحدود وذكر الجنايات ومع ذلك لم يثبتها إلا بشهادة الذكور، فدل على اختلاف الحكم، كما مشى على ذلك وجرت عليه جماهير السلف والخلف من حيث الجملة.
إذا ثبت هذا فإن الأموال يقبل فيها الشاهدان الرجلان، أو الرجل والمرأة بنص القرآن، ثم يرد
Q هل قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282] تنبيه على البدلية من كل وجه؟ بمعنى: أنه يمكننا أن نقبل أربع نسوة منفردات؛ لأن المراد أن شهادة النساء تحل محل الرجال، بغض النظر عن كونهن منفردات أو كونهن مجتمعات مع الرجال، وهذا هو مسلك الجمهور على أنه يمكن أن تقبل شهادة أربع نسوة في الدَّيْنِ، فلو أن رجلاً له على رجل مائة ألف ريال، وخاف أن يأتيه الموت، فأشهد اثنتين من أخواته واثنتين من زوجاته على هذا الحق الذي عليه، صح؛ لأن هذا الحق يثبت بشهادة النساء منفردات وبشهادتهن مجتمعات مع الرجال.
هناك من قال: لا تقبل شهادة المرأة إلا مع الرجل، والصحيح أنها تقبل شهادة النساء، سواءً اجتمعن أو انفردن في الحقوق المالية.
وقوله: (كالبيع).
أي: لو باعه بيتاً فإن له أن يشهد رجلين أو يشهد رجلاً وامرأتين، أو يشهد أربع نساء.
وقوله: (والأجل).
كذلك أيضاً إشهاد الرجال مع النساء في التأجيل، أي: كون الدين مؤجلاً أو معجلاً في الحقوق المالية.
فمثلاً قال له: بعت البيع نقداً، فقال: لا، بل بعتني إلى أجل، والأصل في البيع أن يكون نقداً، لكن إذا ادعى أنه باعه إلى أجل، وقال القاضي للبائع: أبعته إلى أجل؟ فقال: لا، أنا بعته نقداً، فحينئذٍ نقول لهذا: ألك بينة على أنه باع إلى أجل؟ فإن قال: نعم، وجاء بشاهدين من الذكور أو برجلٍ وامرأتين فإنه يصح؛ لأن التأجيل هنا المراد به إثبات حق المال، فالشهادة فيه راجعة إلى الأموال، فتثبت في البيع تأجيل البيع وعدم تأجيله.
وقوله: (والخيار فيه ونحوه).
أي: يجوز إشهاد الرجال والنساء في الخيار في البيع.
وقوله: (رجلان أو رجل وامرأتان) هنا لم يذكر الأربع النسوة، وهذا بناءً على ما اختاره بعض العلماء: أنه لا تقبل شهادة النساء منفردات، والصحيح: أنها تقبل شهادتهن منفردات في الحقوق المالية؛ لأن الله بين أن شهادة المرأتين بمثابة شهادة الرجل الواحد، وعلى هذا فتقبل شهادة الأربع مقابل الرجلين.
والدليل الثالث الذي يُقبل في شهادة الأموال وما يئول إلى المال: شهادة الشاهد مع اليمين، مثل: أن يقوم شخص ويقترض من شخص مائة ألف، وحضر هذا القرض شخصٌ واحد، ثم توفي المقترض، فجاء صاحب الدين إلى الورثة وقال: لي على أبيكم مائة ألف، فقالوا: لا نعترف لك بذلك، أعندك حجة أو كتابة فنقبل منك، فهو لم يخبرنا أن لك عليه مائة ألف؟ فاشتكى إلى القاضي، فقال له القاضي: ألك بينة؟ قال: نعم، لي رجل واحد يشهد، وهذا الشاهد مستوفٍ للشروط، حينها قال القاضي: تحلف معه اليمين، وتستحق ما ادعيت، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح: (أنه عليه الصلاة والسلام قضى بالشاهد مع اليمين)، وهذا عن أكثر من عشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت عنهم هذه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهر ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد في مسنده ومسلم وغيره رحمة الله على الجميع، فهذا يدل على ثبوت سنة الشاهد مع اليمين، ويقول جمهور العلماء رحمهم الله: إنه يقبل الشاهد مع اليمين، ونعتبر قول الشاهد مع اليمين أصلاً بقبول الشهادة، وإذا اعتبرنا جنس الشاهد فإنه يقبل شهادة المرأتين مع اليمين؛ لأن المرأتين قائمتان مقام الرجل؛ ولأن الله أنزل المرأتين منزلة الرجل، وحينئذٍ يكون جنس الشاهد مع اليمين المراد به من اعتد بشهادته، بغض النظر من كونه من الرجال أو من النساء.