قال رحمه الله: [ولا عدو على عدوه، كمن شهد على من قذفه أو قطع الطريق عليه] فلا تقبل شهادة عدو على عدوه، فإن العداوة تحمل على الأذية والضرر، وأعظمها عداوة الدين، ومن هنا قالوا برد الشهادة بعداوة الدين، وقد ردت الشريعة شهادة الكافر على المسلم.
وأما بالنسبة للعدو على عدوه من المسلمين فاختلفت عبارات العلماء: فإن العداوة يكون ظاهرها واضحاً، كأن ترى الشخص يفرح لمساءة الشخص، ويحزن ويغتم -والعياذ بالله- للنعمة تصيبه، فإذا ثبت هذا كأن يتكلم بكلام يظهر منه أنه لا يريد هذا الشيء، أو يصرح بأنه عدو، إما بإقراره أنه عدوه، أو تحدث بينهما خصومة؛ فحينئذٍ لا تقبل شهادته على عدوه.
وهذا النوع من الشهادة عكس من لا تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعاً، أو يدفع عنها ضرراً، فهنا العدو على عدوه لا تقبل، لكن شهادة العدو لعدوه تقبل عكس الوالد لولده، وتقبل شهادة الوالد على ولده، وهذا يدل على مسألة قررها الإمام أبو البركات رحمه الله من فقهاء الحنابلة، وله كلام نفيس جداً في باب الشهادات في المحرر، وأيضاً علق عليه الإمام ابن مفلح رحمه الله في النكت فذكر: أن العلماء بعضهم توسع وبعضهم حجم في مسألة التهمة، لحديث: (ذو الظنة)، والظنين: هو المتهم، وقد جاء اللفظ الآخر: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين)، والظنين: هو المتهم، من الظنة وهي التهمة، كما قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] وفي قراءة (بظنين) أي: بمتهم، فلما قال: (لا تقبل شهادة الخصم والظنين)، والخصومة هي العداوة، فصارت أصلاً في رد شهادة العدو على عدوه، ومن هنا حصل اتفاق العلماء على عدم قبول شهادة من ثبتت عداوته على عدوه.
أما بالنسبة للتهمة: فمنهم من توسع فيها، ومنهم من ضيق، ومنهم من توسط، والمطلوب هو الوسط، ولذلك نجد ممن توسع أتى بأمر غريب، حتى قال بعضهم: لا تقبل شهادة من يبيع أكفان الموتى، قال: لأنه يتمنى موت المسلمين؛ ولأنه لا يربح سوقه إلا ببيعها، وإذا ما حصل موت فلن يجد من يشتري منه، ومن هنا قالوا: لا تقبل شهادته، فيأتون بتهم باطلة، وهذا أمر ينبغي على طالب العلم المسلم الدِّين التقي النقي السوي الرضي أن ينتبه لهذه النوعيات من الناس، حتى إن بعضهم يتكلم في العلماء والدعاة والمشايخ وطلاب العلم من عقول وأفهام ضيقة يعبث بها الشيطان؛ ومن هنا فإن الذي يغسل الموتى ويأخذ أجرةً نفس الحكم، والذي عنده سيارة يحمل الموتى نفس الحكم وتدخل في شيء لا ينتهي، وهذا توسع في إعمال التهمة، وهذا لم يذكره الإمام أبو البركات، وإنما ذكر ضابطه.
ولكن هذه الأمور الغريبة تجدها في كتب الفقهاء رحمهم الله، وهذه لا تنقص من قدر العلماء؛ لأن العالم فلابد أن يبين؛ لأنه إذا جرى على قاعدة وأصل لا بد أن يذكر مثل هذه الغرائب، ومن هنا تجد عنده بعض العذر، لكن ليس كل عذر يقبل، فقد يقع من عامة الناس شيء من هذا بسبب ضعف دينهم، لكن من حيث الأصل لا تعتبر التهمة موجبة للرد إلا إذا قويت، وعلى هذا فلا ترد الشهادة بمطلق التهمة؛ بل ينبغي أن تحرر التهمة وأن تكون مؤثرة في شهادة الشاهد.
قال رحمه الله: [ومن سره مساءة شخص أو غمه فرحه فهو عدوه] بين رحمه الله -بعد أن ذكر أن شهادة العدو لا تقبل- ضابط العدو: وهو الذي يسر بالمساءة تصيب الرجل، ويثبت عليه بالشهود أنه سر حينما وقع حادث على فلان، أو اغتم حينما صار الخير له، فحينئذٍ يثبت أنه عدو؛ لأن هذه يسمونها: دلالة الظاهر على الباطن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أُمرت أن آخذ بظواهر الناس)، فإذا وُجِدَ رجل أصابه مكروه، فوجدنا شخصاً فرح وسرّ بهذا؛ دل على أنه عدو له، ومنهم من يسجد سجدة الشكر إذا بلغه وقوع مصيبة على عدوه نعم، له أن يفرح إذا كان الشخص يظلمه ويؤذيه ويضطهده، وكان باغياً ومعتدياً عليه، وبلغه عنه ما يسوءه وأن ذلك يعيقه عن أذيته، فسجد لله شاكراً أن قطع الله عنه دابره.
ومن غير المسلمين يمكن أن تقبل، لكن من المسلمين من الصعب أن تقبل، لكن إذا جاءه ضرر من هذا الرجل ودائماً يؤذيه لسبب، فله أن يشكر الله؛ وذلك لقوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، فكيف إذا كان أبدا فرحه بنعمة الله عليه؟ لأن الله امتن على بني إسرائيل بذهاب البلاء والشر عنهم، وانتصارهم على عدوهم.
فإذا كانت هناك عداوة عن ظلم وأذية وإضرار، وفرح الإنسان بهذا، فإنه لا ينقص من قدره ولا يؤثر فيه، وإنما يؤثر في الشهادة لو كان العدو صالحاً.
ومن حقك مثلاً أن تفرح أن عدوك كبته الله عنك ولو كان مسلماً، كأن يكون لك جار سوء مؤذٍ يتهمك بالباطل يقذف عرضك، يتهمك في عقيدتك، ثم أصابه بلاء، وقطع الله دابره عنك، ففرحت أن الله سبحانه وتعالى أزاح عنك هذا الهم، فهذا لا يعتبر منقصة لك، وإنما هذا شر صرفه الله عنك، لكن لو ثبت عن الإنسان أنه فرح واغتم فيما فيه شبهة العداوة، فإنه يثبت عنه أنه عدو، ومسألة الحكم أنه يجوز أو لا يجوز هذه مسألة أخرى، لكن مسألة ما هو الضابط؟ بغض النظر عن كونه مشروعاً للإنسان أو غير مشروع، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له.