قال المصنف رحمه الله: [فمن حمل نجاسةً لا يعفى عنها، أو لاقاها بثوبه أو بدنه لم تصح صلاته] قوله: (فمن حمل نجاسةً لا يعفى عنها) الفاء في قوله: (فمن حمل) للتفريع والتفصيل، أي: إذا علمت أن اجتناب النجاسة لازمٌ على المصلي فاعلم أن من حمل نجاسةً يحملها بالاتصال، مثل أن تكون في ثوبه متصلةً به، فيوصف بالحمل تجوزاً وإن كان في الحقيقة أنه متلبسٌ بها.
وقوله: (أو لاقاها) أصل الملاقاة: مواجهة الشيء للشيء، يقال: لقيه: إذا واجهه قالوا: فإذا اتصل الجسم بالجسم فقد التقيا، ثم إذا حصل اللقاء على سبيل المداخلة كأن يلقى نجاسةً وتدخل في ثيابه فهي مداخلة، وأما إذا لاقت النجاسة الجسم دون أن تداخله، كأن تكون جامدة لا تسيل على البدن أو الثوب فهي مماسة.
فملاقاة النجاسة على حالتين: فإن كانت النجاسة دخلت في ثوبه، كأن تكون نجاسةً مائعةً فحينئذٍ لا إشكال، فيقال: لقيها وتنجس بها.
وأما إذا لم تدخل واقتصر اللقاء على كونه مواجهاً لها إلى درجةٍ يمس فيها الجسم الجسم يقال: لاقاها، ثم فإذا مس الجسم الجسم لا يخلو من الأحوال: إما أن يمسها ببدنه، فيقال: لاقاها ببدنه، كأن يضع كفه على شيءٍ نجس، فيقال: لاقاها ببدنه؛ لأن بشرة البدن قد لاقت النجاسة، وإما أن يمسها ثوبه، وهو الحائل الذي بين البدن وبين النجاسة، فإذا كان الثوب حصلت به الملاقاة قيل: لاقاها بثوبه، فقال رحمه الله: (أو لاقاها ببدنه أو ثوبه) فالملاقاة بالبدن والثوب على هذه الصور التي ذكرناها.
وحمل النجاسة له أمثلة، كأن يحمل النجاسة بالجرم النجس أو المتنجس، كشخصٌ أصابه رعاف، ثم سال دمه في منديل، ثم نسي ووضع المنديل في جيبه، فهذا حاملٌ للنجاسة بالوصف.
فإن كان عالماً بها فحينئذٌ نقول: حاملٌ للنجاسة، وأما الحمل المنفصل، وهو الحمل الذي يكون جوف الشيء فيه نجس فهذا له حكمٌ يخصه، مثل أن يكون حاملاً لصبية صغيرة أو صبي صغير، فإنه لا يخلو في الغالب من وجود النجاسة، وهذه المسألة ذكرها العلماء رحمهم الله في زمانٍ قد لا يكون مما عمت به البلوى، ولكن في عصرنا اليوم وقعت هذه المسألة، فإن بعض العمليات الجراحية -أعاذنا الله وإياكم منها- يكون الإنسان فيها مضطراً إلى حمل كيس يكون فيه فضل بوله أو غائطه، ففي هذه الحالة يعتبر حاملاً للنجاسة، فلا يشترط في حمل النجاسة أن يضعها على عاتقه، بل الحمل المطلق الذي يطلق على الجيب والبدن، فإن كانت في جيبه قالوا: حملها بثوبه؛ لأن الثوب معلقٌ على البدن، والنجاسة موجودةٌ فيه، فهو حاملٌ لها من هذا الوجه، أو يحملها بالبدن نفسه، كالكيس الذي يكون فيه فضل البول -أكرمكم الله- في حالة الاضطرار، كما في بعض الجراحات المتعلقة بالمسالك البولية، فهذا حاملٌ للنجاسة، وحمل النجاسة لا يخلو من حالتين: إما أن يحملها معذوراً بها لا يمكن بحالٍ، أو يمكنه ولكن بمشقةٍ كبيرة أن يزيلها عنه فهذا يرخص له؛ لأن التكليف شرطه الإمكان وهذا ليس بإمكانه، كمريضٍ قرر الأطباء أنه لا بد من حمله لهذا الكيس الذي يكون فيه فضل بوله، فحينئذٍ نقول: إنه معذور؛ لأنه لم يكلف إلا ما في وسعه، وهذا ليس في وسعه إلا هذا الشيء.
وأيضاً يكون معذوراً بحسب الموضع النجس بالمنديل أو القطن إذا احتاج إلى ذلك، مثل ما يقع في الجراحات السيالة التي لا تنكف إلا بمنديل أو بقطنٍ يوضع عليها، فهذه نجاسة ليست بيد الإنسان أن ينزه عنها فيعتبر مضطراً لها، ويجوز له أن يصلي مع حمله لها.
أما الذي يتكلم عليه العلماء هنا فهو حال الاختيار لا حال الاضطرار، فلو حملها مختاراً وعالماً ذاكراً فإنه لا تصح صلاته.
فقوله: (فمن حمل نجاسةً لا يعفى عنها) أي: يحمل النجاسة، وتكون هذه النجاسة شرطها مما لا يعفى عنه؛ لأن النجاسة على قسمين: ما عفي عنه وهو يسير الدم، وما لا يعفى عنه وهو ما زاد عن ذلك، وقد تقدم ضابط اليسير وخلاف العلماء رحمة الله عليهم فيه، وهناك من أهل العلم من يقول: كل نجاسةٍ يسيرة شق التحرز عنها فإنه يعفى عنها، وهذا من جهة المشقة لا من جهة اليسير، وفرق بأن تقول: يعفى عنه لمكان المشقة وشقة التحرز، وبين أن تقول: يعفى عنه ولو لم يشق، والفرق واضح في هذا، فإنك إن قلت: يعفى عن اليسير للمشقة، مثلما ذكروا في عرق الحمير، إذا ركب الحمار أو نحو ذلك، فهذا لمكان المشقة والعفو من جهة الاضطرار، بحيث لو أمكنه أن يتحرز لزمه، لكن الذي يتكلم عليه المصنف هنا عن نجاسة يعفى عنها في حال الاختيار كاليسير، أو نجاسة يعفى عنها بحال الاضطرار كالنزيف، فحينئذٍ هذا له حكم.
فيشترط في النجاسة المؤثرة في الصلاة أن تكون مما لا يعفى عنها، فإن كانت يسير دمٍ يعفى عنه فهذا معذورٌ صاحبه ولا حرج عليه في حمله.
فإن قال قائل يوماً: خرج من سني دمٌ، فأخذت المنديل وكففته، فتعلق بالمنديل، ثم انكف هذا الدم، فنظرت فإذا المنديل حامل لهذه النجاسة، فوضعته في جيبي فما حكم الصلاة؟ فحينئذٍ ننظر في هذا الدم الذي تعلق بالمنديل، فإن كان يسيراً -وهو دون الدرهم البغلي كما ذكرنا ضابطه في إزالة النجاسة- فإن صلاته صحيحة، ولا يؤثر فيه هذا اليسير، وأما إذا كان كثيراً متفاحشاً فحينئذٍ نقول: إنه حاملٌ للنجاسة وتبطل صلاته، ومن هنا سيخرج ما أُثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يعصرون البثرة وهي الحبة اليسيرة من الدم الذي يخرج في اليد، كانوا يعصرونها وربما عصروها وصلَّوا؛ لأن الذي يخرج من البثرة إنما هو شيءٌ يسير، فنقول: إذا كان الدم الذي حمله المنديل يسيراً فإنه مما يعفى عنه ويغتفر، وإنما ينظر العالم والفقيه في الدم المؤثر في الصلاة إذا كان كثيراً فاحشاً.
وقوله: (أو لاقاها بثوبه أو بدنه) سبق الكلام على الملاقاة بالثوب والملاقاة بالبدن.
وقوله: (لم تصح صلاته)؛ لأن الله عز وجل أمر بالطهارة، والطهارة شرط الصحة، وفقدها فقدٌ للحكم بالصحة.