قال رحمه الله: [وتعتبر عدالة البينة ظاهراً وباطناً].
أي: لا يقبل من الشهود إلا العدول، كما قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ}، والفاسق لا يرضى، كذلك قال: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96]، إذاً: ينبغي أن يكون ممن يرضى، كذلك دلّ دليل آية الحجرات في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، على أن الفاسق لا تقبل شهادته؛ لأنه قال: (فَتَبَيَّنُوا): أي فتثبتوا ولا تعجلوا فلو كان خبر الفاسق مقبولاً، لحكم به مباشرة، ولما أمرنا بالتريث، فدل على أن خبر الفاسق لا يقبل مباشرةً، والفسق سواءً كان في الأقوال أو كان في الأفعال، يوجب رد الشهادة إلا في أحوال مخصوصة، التي هي شهادة أمثل الفساق، إذا لم يوجد إلا هم، وسيأتينا إن شاء الله في باب من تقبل شهادته ومن ترد.
والعدالة قسمان: عدالة ظاهرة وعدالة باطنة، فإذا كان مسلماً، فهذه عدالة ظاهرة كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، أي: عدولاً، لكن العدالة الباطنة أن يعرف حاله؛ ولذلك لا تقبل شهادة الشاهد حتى يزكى، فإذا زكي قبلت شهادته، هذا إذا كان القاضي لا يعرفه، ولذلك جاء رجل إلى عمر بن الخطاب وشهد عنده فقال له عمر: إني لا أعرفك، اذهب وائتني بمن يزكيك، فجاء برجل فقال: أتعرفه؟ قال: نعم، قال: فَبِم تعرفه؟ قال: بالخير، فقال: هل أنت جاره الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على صدق الرجل وأمانته؟ قال: لا، قال: اذهب؛ فإنك لا تعرفه.
فالتزكية -أيضاً- لا تقبل إلا ممن هو أهل.
إذاً: لا تقبل العدالة إلا ظاهراً وباطنا، هذا مذهب الجمهور، أما الحنفية فعندهم أي مسلم يشهد تقبل شهادته؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (من صلى صلاتنا، وذبح ذبيحتنا، واستقبل قبلتنا ... ) وغيره من العمومات، ولكن هذا القول ضعيف.
يقول شيخ الإسلام -في رد جميل-: من قال: إنهم يقولون إن الأصل في المسلم العدالة فهذا القول ضعيف؛ لأن الله تعالى يقول: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، والأصل فيه: الظلم والجهل حتى يزكى بالإسلام، ثم تأتي العدالة تزكية زائدة على التزكية الأصلية؛ ولذلك الوصف بالعدالة ليس وصفاً مطلقاً للإنسان، وإنما هو وصف يحتاج إلى تزكية، فلا تقبل إلا ظاهراً وباطنا، وهذا مذهب الجمهور، وأيضاً الإمام الماوردي ناقش استدلالهم وبين أن هذا الوصف زائد، وهو الذي قصده الشرع لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] فخصص، والشهداء مسلمون، ولكنه قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، وهذا يدل على أنه وصفٌ زائد.