قال رحمه الله: [فإن أحضرها سمعها وحكم بها] أي: البينة، كشهادة شهود، ويجب على القاضي أن يسمع منهم.
[ولا يحكم بعلمه].
ولا يحكم القاضي بعلمه، ولا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه إلا في مسائل، وهي تزكية الشهود وجرحهم، فلو كان يعلم أن هذا الشاهد لا تقبل شهادته، وجيء به في قضية، وقيل له: فلان يشهد فنظر فيه، فقال: هذا ما نقبل شهادته، فهذا من حقه؛ لأنه يعلم فيه جرحاً؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ممن ترضون: يعني يكون مرضياً عنهم، ولذلك لما أتى شخص لدى القاضي إياس رحمه الله بشاهد ولم يقبله إياس، قال له: لمَ ترد شاهدي رحمك الله؟ قال: يا هذا إن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، وأنا لم أرضَ شاهدك، وفي بعض الروايات: وإن هذا ليس ممن أرضاه، فهذا يدل على أن من حق القاضي أن يقضي بعلمه: وفي الشهود يحكم القاضي بما يعلم منهم باتفاق العلماء.
فإذا عرفهم بالتزكية قبلهم وزكاهم، وإذا علم أن فيهم حرجاً ردهم.
وفي سواهم مالك قد شددا في حكمه بغير الشهدا وهو مذهب الجمهور، وليس خاصاً بـ مالك، فالشاهد من هذا: أن قضاء القاضي بعلمه لا يجوز، والدليل على عدم عمل القاضي بعلمه، قوله عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فإنما أقضي على نحوٍ مما أسمع).
وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه لما حدث اللعان بين عويمر وامرأته، قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إليه فإن جاءت به على صفة كذا وكذا -كما ذكرنا في اللعان- قال: فقد كذب عليها والولد ولده، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا فقد صدق عليها وهي زانية)، فأراد الله عز وجل أن تجيء به على صفة من اتهمت به -والعياذ بالله- فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً راجماً أحداً من غير بينة لرجمت هذه)، فدل على أنه علم واطلع على ذلك، وجاء بالقرينة واستقر عنده الدليل واتضح أنها زانية، ومع ذلك لمن يقضِ بعلمه، فدل على أن القاضي لا يجوز له أن يقضي بعلمه.