أن يكون حليماً ذا فطنة وأناة

قال رحمه الله: [حليماً ذا أناة وفطنة].

لأن القاضي سيأتي إليه السفيه بسفهه، والجاهل بجهله، والناس تأتي وقد أُخذت حقوقها، وضاعت، فيصرخ الرجل وتتألم المرأة ويتضجر المظلوم، فيحتاج إلى صبر وإلى تحمل وإلى أناة، وإلى عدم استعجال وعدم تضجر من هذه الأشياء، ولذلك الأجر في هذا عظيم، فمن ابتلي بمصالح المسلمين كل الناس تأتيه على اختلاف أحوالها حتى العالم الطبيب الخطيب، فلابد أن يكون لديه من الحلم ما يسع الناس برحمته ولطفه، حتى يستطيع كل شخص أن يبدي ما عنده ما دام أنه يقدر على ذلك، أما إذا كان لا يقدر على ذلك أو كان مريضاً أو عنده فهذا أمر آخر، لكن في الأصل العام أنه يبذل ما يستطيع، حتى يستطيع أن يعلم ماذا عند الناس، ويوصلهم إلى حكم الله عز وجل ودينه وشرعه بالتي هي أحسن.

والحلم خصلة يحبها الله، قال صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)، والحلم سعة الصدر، ويلزم أن يكون القاضي حليماً؛ قد يأتي الخصم -في بعض الأحيان- بحالة متفجع، فتصدر منه عبارات، فلابد أن يكون لديه من الحلم ما يطفئ هذا الغضب، ولا ينفر منه الناس في تعاملهم معه.

[ذا أناة].

أي: صاحب أناة لا يستعجل في الأمور، فإذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم عليه حتى ترى خصمه، فلعله فقئت عيناه، وقد يأتيك الشخص وهو يبكي ويشتكي وإذا بك تشعر أنه المظلوم، ثم يتبين أنه مزور أو كذاب أو غشاش، أو يكون رجلاً صالحاً وعظم الأمر عندك ولكنه فهم خطأ، فلا يمكن أن تستبين هذه الأمور إلا بالأناة والتروي وعدم الاستعجال، ولذلك من رُزق الأناة فقد رزق الخير الكثير.

[وفطنة].

الفطنة هي: الكياسة والحذر والتنبه، ومن الناس من رزق الفطنة حتى إذا ولي القضاء يبلغ به الحال أنه يجلس إليه الخصمان فيعرف المحق منهما من المبطل، وهذا أثر عن بعض السلف وبعض العلماء الأجلاء الذين كانوا على درجة من الفطنة والفهم، حتى بلغ بأحدهم أنه لا يتكلم عنده الخصمان إلا شعر أيهما الظالم من المظلوم من كثرة التعامل مع الناس وتفطنه لأقوالهم وطرقهم وألاعيبهم وكذبهم وغشهم، فأصبح -غالباً- من قوة فراسته يستطيع أن يدرك كثيراً من الخلل، وليس معنى ذلك أنه يعلم الغيب، وإنما هي فراسة المؤمن.

لكن ينبغي -كما يقول العلماء- في هذه الفراسة والفطنة أن لا يجاوز فيها ولا يسرف، وذلك أنه قد تكون عند إنسان فراسة -وقد تصيب- لكن لا يسرف فيها؛ فإن الشيطان -من خبثه- ربما يستدرج الإنسان إذا أصاب في التفرس مرة أو مرتين حتى يوقعه في سوء الظن بالمسلمين، وربما سدده بالفراسة المرة والمرتين حتى لربما خونه في أهله وعرضه وزوجه، فيحذر الإنسان من استدراج الشيطان له، فالفراسة لها حدود، والفطنة لها حدود، ولذلك قالوا: يكره شديد الذكاء في القضاء؛ لأنه إذا اشتد ذكاؤه ربما حمل الأمور ما لا تتحمل، وحملها على غير ما لا ينبغي أن تحمل عليه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015