فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والنجس ما تغير بنجاسة].
هذا النوع الثالث من أنواع المياه: وقد تقدم معنا: الماء الطهور، والماء الطاهر، وهنا: الماء النجس، ولابد من الحديث عن هذا النوع؛ لأن الطهارة لا تصح به، ولأنه لا يمكن للمكلف أن يعرف الطهور إلا إذا حفظه من النجاسة.
والنجاسة: أصلها القذر، يقال: نجس الشيء ينجس فهو نجس، إذا كان مستقذراً، والمراد بها نجاسةٌ مخصوصة، وهي التي حكم الشرع بكونها نجاسة؛ ولذلك لابد للمكلّف من معرفة المياه المتنجسة والمياه النجسة.
وقبل أن نبدأ الحديث عن أحكام الماء النجس، أحب أن أمهد بتنبيه، وهو أن هناك مائعٌ نجسٌ في أصله، وهناك مائعٌ متنجس.
فالمائع النجس: هو الذي أصله نجس، كأن يكون مستخلصاً من شيءٍ نجس، كزيوت الميتة، فلو أُخذَ شحمها وأذيب، فإن المائع المستخلص -وهو الودك- يعتبر نجساً، أي: أن عينه نجسة، وهكذا البول فإن عينه نجسة.
أما النوع الثاني: وهو المتنجس، فإن أصله طاهر، ولكن وقعت فيه نجاسةٌ أوجبت نقله في الحكم من كونه طاهراً إلى كونه نجساً.
وسنتكلم -إن شاء الله- عن ماءٍ تأثر بالنجاسة، وحُكمَ بكونه نجساً، وعلى هذا فإننا نحتاج إلى معرفة متى يُحكم بانتقال الماء من كونه طهوراً إلى كونه نجساً.
فقال رحمه الله: (والنجس ما تغير بنجاسة).
والماء النجس ما تغير بنجاسة: أي أن أصله طاهر، مثالُ ذلك: لو أخذت إناءً فيه ماءٌ من بئر فإنه ماءٌ طهور، فإذا تغير بنجاسةٍ فإنه يُحكم بتغيره إذا تغير لونه أو طعمه أو رائحته؛ مثلاً: بال فيه صبيٌ فوجدت لون الماء قد تغير بلون البول، أو تغير بطعم البول، أو رائحة البول في الماء، فإذا وجدت أحد هذه الأوصاف الثلاثة حكمت بكون هذا الماء قد انتقل من كونه طهوراً إلى كونه نجساً، ويحكم بنجاسته؛ لأن النجاسة دخلت عليه فهي نجاسةٌ عارضة؛ ومن ثم لا يجوز أن يتوضأ بهذا الماء؛ لأنه لا يزيل خبثاً ولا يرفع حدثاً، فلا يتوضأ به ولا يُغتَسلُ به من الجنابة، ولا ينظف به من الخارج من بولٍ أو غائط.
فكل ماءٍ وقعت فيه نجاسة وغيرت أحد الأوصاف الثلاثة حكم بكونها مؤثرة، سواءً كانت مائعة كالبول أو جامدة كالعذرة، فحينئذٍ يحكم بكون الماء نجساً.
قال رحمه الله: [أو لاقاها وهو يسير].
تقدم معنا أن العلماء رحمهم الله منهم من يقول: الماء ينقسم إلى قليلٍ وكثير، أو كثيرٍ ويسير، فعندهم الكثير ما بلغ القلتين وجاوزها، واليسير: ما كان دون القلتين، فكلٌ ماءٍ كان دون القلتين عند من يرى اعتبار القلتين، بمجرد أن تقع فيه النجاسة يحكم بكونه نجساً، فالماء الطهور يحكم بنجاسته في إحدى حالتين: إما أن يكون كثيراً تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة، أو يكون قليلاً ولم يتغير، فإن القليل بمجرد أن تقع فيه النجاسة يحكم بكونه متنجساً، هذا في مذهب من يرى القلتين.
أما المذهب الصحيح وهو اختيار شيخ الإسلام وجمع من المحققين أنه لا فرق بين القليل والكثير، وأن المهم هو تغير الماء بالنجاسة لوناً أو طعماً أو رائحة، لكن المصنف يرجح مذهب القلتين، والصحيح كما قلنا: أن المهم تغير اللون أو الطعم أو الرائحة.
الخلاصة: أنه لا يحكم بنجاسة ماءٍ إلا إذا وجدنا لون النجاسة أو طعمها أو ريحها في ذلك الماء.
قال رحمه الله: [أو انفصل عن محل نجاسةٍ قبل زوالها].
هذا الذي يسميه العلماء: غسالة النجاسة، فإذا وقعت على الثوب قطرةٌ من بول فصبّ الإنسان الماء على هذه البقعة، فالماء المصبوب إذا أذهب هذه النجاسة وكان كثيراً ولم يتغير فالمذهب أنه طاهر كالغسلة الأخيرة في إزالة النجس وقد تقدم في الكلام عن الماء الطاهر؛ لكن لو صبت الغسلة الأولى وبقي أثر النجاسةِ في المحل حكمنا على الماء الذي صُبّ أنه متنجس؛ لأنه لو كان طاهراً لأثر في عين النجاسة ولأزالها ولم يبق لها أثراً.
فإذا صُبّ الماء على نجاسةٍ، وبقيت بعد الماء المصبوب، فإن الماء المخالط للنجاسة نجس، وهذه صور يمثل بها العلماء، والذي يهمنا هو أنه إذا كان الماء طهوراً وتغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو نجس، وإذا لم يتغير أحد أوصافه فهو طهورٌ أو طاهر.