الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم في رحله ... ) وقوله: (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين)
Q كيف يجمع بين حديث: (إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه، فإنها له نافلة)، وحديث: (لا تصلوا صلاةً في يوم مرتين)؟
صلى الله عليه وسلم أما أمره عليه الصلاة والسلام بإعادة الصلاة لمن دخل المسجد فهو ثابتٌ في أكثر من حديث: أولها: ما ثبت في الصحيح في قصة الرجلين في خيف منى: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح، ورآهما لم يصليا، فقال عليه الصلاة والسلام: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله! كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة).
ومنها: حديث أبي ذر رضي الله عنه: (صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة).
فهذه الأحاديث تقتضي جواز الإعادة، وأنه يُشرع إعادة الصلاة، بل ظاهرها الأمر الذي يدل على الوجوب، وأما كيف يُجمع بينها وبين حديث ميمونة: (لا تعاد الصلاة في يوم مرتين) فقال بعض العلماء: درجة الأحاديث التي توجِب الإعادة أقوى في الصحة من حديث ميمونة، فيقدَّم الأصح على الصحيح، والأعلى ثبوتاً على ما هو أدنى، فهذا وجهٌ من يُقَدِّم حديث الأمر بالإعادة.
والوجه الثاني قالوا: لا تعارض بين عامٍ وخاص، فالنهي على عمومه وهذه حالةٌ خاصة، والقاعدة: لا تعارض بين عامٍ وخاص، وهذا أقوى الأوجه، وأميل إليه، فهذان الوجهان مسلك من يقول: إنه يعيد.
وأما من يقول: لا يعيد، فيتفرقون على طوائف: الطائفة الأولى يقولون: لا يعيد في صلاة كصلاة الصبح والفجر لورود النهي عن الصلاة بعد الصبح والفجر، وهذا ضعيف؛ لأن حديث خيف مِنى وقع في صلاة الصبح.
وقالت الطائفة الثانية: لا يعيد المغرب؛ لأنه إذا أعادها أوتر في الليلة مرتين.
ويُجاب عنه من وجهين: أحدهما: إما أن يؤمر بنقض الوتر بركعة، وهذا وجه، أو يقال: إن الوتر يبتدئ وقته بدخول وقت العشاء لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم: الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر)، فوقت الوتر جعله بين صلاة الصبح وصلاة العشاء، فإذا وقعت إعادته للمغرب وقعت قبل دخول وقت الوتر، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) أي: في وقت الوتر، وهذا مسلك صحيح وأميل إليه.
فأصحاب المذهب الثاني الذي يُقدِّم حديث النهي قالوا: لا يجوز للإنسان أن يُعيد الصلاة مطلقاً فهذا يقوي حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها في نهيه أن تعاد الصلاة مرتين، ولهم أوجه في الأصول، الوجه الأول: قالوا: لأن القاعدة إذا تعارض الأمر والنهي يُقدَّم النهي على الأمر.
والوجه الثاني: قالوا: إن أحاديث الأمر منسوخة بالنهي وهذا ضعيف؛ لأن الإثبات النسخي محل نظر لأمور: أولها: أحاديث الأمر بالإعادة فيها قرائن تدل على البقاء وعدم النسخ، فإنك إذا تأملت حديث خيف مِنىً وجدته من آخر ما يكون؛ لأنه في حجة الوداع، وما عاش النبي بعد حجه صلى الله عليه وسلم إلا شهوراً يسيرة، ولذلك يقوى بقاء الحكم.
الأمر الثاني: أن القاعدة في الأصول أن النسخ لا يثبُت في الأخبار، فكيف إذا ترتبت الأحكام على الأخبار؟ فلو قال لك: إن النهي عن إعادة الصلاة أقوى من الأمر بإعادتها، وتقول له: كيف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر أنه إذا كان أميراً عليه مَن يؤخِّر الصلاة أنه يُعيد، ويتعلق الحكم بما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
فلا يتأتى الحكم بالنسخ، ولذلك الذي تميل إليه النفس أننا نقول: أحاديث النهي عامة، وأحاديث الأمر بإعادة الصلاة خاصة، فيُقَدَّم الأمر بالإعادة على النهي.
وهناك وجه ثان أشار إليه الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد، وهو قويٌ أيضاً، يقول: إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إعادة الصلاة مرتين محمولٌ لمن يعتقد الفرض فيهما، وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقال: (فإنها لكما نافلة)، فيكون نهيه عليه الصلاة والسلام عن إعادة الصلاة مرتين فيه إطلاق، وأمره بالإعادة بنية النفل فيه تقييد.
وهذا أيضاً وجه قوي يعتضد مع المسلك الأصولي الذي قلناه، وبهذا لا تعارض بين هذه الأحاديث، والله تعالى أعلم.