قال رحمه الله: [ومن حرم حلالاً سوى زوجته من أمة أو طعام أو لباس أو غيره لم يحرم، وتلزمه كفارة يمين إن فعله].
هذه المسألة تقدمت معنا في قول الرجل لزوجته: أنتِ عليّ حرام، وذكرنا: أن هذه المسألة فيها ما لا يقل عن عشرين قولاً، ذكرها أئمة التفسير في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] قال بعض العلماء: إنه إذا حلف وحرم على نفسه لبس الثياب، أو حرم على نفسه لبس غطاء رأسه كالعمامة، أو حرم على نفسه أن يركب السيارة، أو حرم على نفسه أن يطعم الطعام، أو حرم على نفسه أن يتزوج، قالوا: كل هذا لغو ولا شيء عليه ولا تجب عليه كفارة، وهذا مذهب الظاهرية وأهل الحديث، قيل: مذهب جمهور أهل الحديث.
وذهب الجمهور -على تفصيل عندهم- إلى أنه إذا حلف على تحريم حلال فإنه تنعقد يمينه ويجب عليه الكفارة، وهذا مبني على أصل، والأصل: أن تحريم الحلال يأتي على صورتين: الصورة الأولى: إذا قصد به التحريم فهو لغو.
الصورة الثانية: إذا حلف على أن يحرم على نفسه شيئاً حلالاً، فإنه حينئذٍ يُكفِّر، وهذا معنى ما ورد في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة العسل، عندما قالت أم المؤمنين حفصة: أجد منك ريح مغافير، وهذا من باب الغيرة؛ لأنه شرب عند زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها العسل، وغارت أمهات المؤمنين وتمالأن عليها، وقمن يذكرن ذلك له عليه الصلاة والسلام، وقلن: جرست نحلة في العرفط، وهذا عندما شرب عندها عسلاً، وبين الله عز وجل ذلك لنبيه وقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] فالنبي صلى الله عليه وسلم لما امتنع من شرب العسل، قال الله عز وجل له: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] وهذا يدل على أنه قصد اليمين.
ومن هنا من حرم على نفسه الحلال وقصد اليمين انعقدت يمينه، وأما إذا حرم الحلال معتقداً تحريمه فهذا لغو ولا يؤثر، ومنه ما فعله الصحابة حينما اجتمعوا: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعهم عثمان بن مظعون، وكان من أشد الصحابة عبادة وصلاحاً رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عنهم أجمعين، وتكلموا في شأن الإسلام ثم اتفقوا على أنهم لا يتزوجون النساء وأنهم يختصون، فأدركتهم نشوة الدين ومحبة الطاعة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال -كما في الحديث الصحيح حديث جابر -: (رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان التبتل، ولو أذن له لاختصينا).
فتحريم المباحات من شأن أهل الضلال، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يحرم شيئاً أحله الله له، وذلك لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:32] وهذا استفهام إنكاري، يدل على أن الحلال ما أحله الله، ولو حرمه الناس، والحرام ما حرمه الله ولو أحله الناس، فلو حرم حلالاً كان لغواً.
قوله: (سوى زوجته) تقدم معنا أنه إذا قال لزوجته: أنتِ عليّ حرام، أو أنتِ الحرام، أو الحرام يلزمني منك.
كل هذا تقدم.
والحنابلة كما ذكرنا يقولون: إنه ظهار، وقد صح عن عثمان رضي الله عنه أن من حرم زوجته فهو مظاهر، وقد بينّا أن الصحيح: أن من قال لامرأته: أنتِ عليّ حرام، نسأله عن نيته، إن قصد به اليمين فعليه الكفارة، وفيه عن ابن عباس أثر صحيح، وإن قصد به الطلاق سألناه كم ينوي؟ وإن قصد به الظهار فظهار، وإن لم يقصد شيئاً فهو لغو، مع أنها ليست بحرام وإن قال: إنها حرام، فهو أخبر بشيء مخالف للواقع، فلا يقع شيئاً ولا يعتد به ويكون لغواً.
قوله: (لم يحرم) لم يحكم بتحريمه عليه، ويكون كلامه لغواً.
قوله: (وتلزمه كفارة يمين إن فعله) كما ذكرنا بالتفصيل الذي بيناه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.