قال رحمه الله: [ومن اضطر إلى محرم غير السم حل له منه ما يسد رمقه]: بعد أن بين أحكام الاختيار شرع رحمه الله في بيان أحكام الاضطرار.
والضرورة: الإلجاء، ومن اضطر إلى الشيء احتاجه ولجأ إليه بعد الله سبحانه وتعالى، ولا تكون الضرورة إلا عند الخوف على النفس من التهلكة، أو على عضو من الأعضاء؛ كاليد والرجل أن تقطع، أو تذهب منافعها، فهذا مقام ضرورة.
قوله: (من اضطر) كمن أصابته مخمصة: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة:3] قيل: ألا يكون سفره لحرام، وقيل أن يقصد تقوى الله عز وجل، وألا يعتدي ويسرف في أكله، فإذا أصابته المجاعة ولم يجد شيئاً إلا الميتة، ينتظر حتى يغلب على ظنه أنه لو لم يأكل يهلك، فحينئذ يأكل، وقد ذكر الإمام الحافظ ابن حجر أمراً عجيباً عن بعض الأطباء، وهو: أن الجسم إذا وصل إلى درجة المخمصة الشديدة وأصبح في مجاعة شديدة، وبلغ حالة الاضطرار، تكون فيه مثل المادة السمية، مما يفرزه من شدة حرارة الجسم، وهي في حُمياته، وهذه المادة تقوى على دفع سم الميتات وضررها.
وقال: هذا من البديع الحسن، وكل شرع الله عز وجل حسن، ومن هنا لو اعترض معترض بأن الميتات خبث، وأنها كذا، لا يبعد أن الله سبحانه وتعالى أحل هذا، وجعل في الإنسان ما يؤهله لذلك، ولذلك لما حرم الخمر سلبها المنافع، فالله إذا أحل وحرم، حلل وحرم لحكمة: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
فمن اضطر -أي بلغ مقام الاضطرار- فقد أجمع العلماء رحمهم الله على حل الميتات والمحرمات له؛ لأن الله نص على ذلك، فقال سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:173]، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة:3]، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145]، وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] فالمضطر يسقط عنه التكليف، وحينئذ ينقذ نفسه، وهذا من باب دفع الضرر الأعظم بتناول أو تعاطي الضرر الأخف، وعلى هذا أجمع العلماء والقاعدة المشهورة: (الضرر يزال) ومن فروعها: (الضرورات تبيح المحظورات).
قوله: [ومن اضطر إلى محرم]: كالميتة، فيجوز للمضطر أن يأكل منها، وهل يأكل إلى حد الشبع، أو يأكل بقدر ما يدفع المخمصة؟ وجهان: أحوطهما: أن يأكل بقدر ما يدفع به المخمصة، وإذا غلب على ظنه أنه يجد ما ينقذ به نفسه فلا يجوز له أن يحمل منها، وإذا غلب على ظنه أنه لا يجد فيجوز له أن يحمل، هذا بالنسبة للأكل مما يضطر منه.
فالقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) فُرعت عليها القاعدة: (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) ومن هنا يأكل بقدر ما يدفع به الضرر عن نفسه، والزائد على ذلك يبقى على الأصل.
[غير السم]: لأن السم لا ضرورة فيه، فإنه إذا أكله هلك، وحينئذ لا ينقذ، بل يعجل بالوفاة، فلا يجوز تعاطي السم في الضرورات، يعني ليس بموجب لاغتذاء الجسم، وليس بموجب لاندفاع الضرر عنه، إلا فيما استثنيناه من أن يكون السم للتداوي أو ما شابه، فهذا قد استثناه بعض العلماء ولا يدخل في مسألتنا، إنما المسألة: رجل جائع ويريد أن يأكل، ولم يجد إلا سماً، أو عطشان، ولم يجد إلا سائلاً من السم، وإذا شربه يموت، فإن هذا ليس مما يؤذن له بشربه.
قال رحمه الله: [حل له منه ما يسد رمقه] حل له من الميتة، أو من الطعام المحرم ما يسد رمقه؛ لأن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
قال رحمه الله: [ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه]: بعد أن بين الاضطرار إلى الأكل شرع في الاضطرار إلى المنافع، إذا اضطر إلى المنفعة مع بقاء العين، كأن يضطر إلى ركوب سيارة، مثل أن تكون امرأته في حالة يخشى عليها الموت، أو عنده مريض يريد أن يسعفه، ولم يجد إلا هذه السيارة وعليها مفتاحها، إذن اضطر إلى نفع في مال غير، وهي السيارة، والنفع هو الركوب، مع بقاء العين: التي هي السيارة، وسيردها إلى صاحبها، فليس فيه استهلاك للمادة، وهذا يدخل في العواري، والأصل: أن المسلم يمنح أخاه المسلم ويعطيه، دل على مشروعية ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما ركب على فرس أبي طلحة، وذلك عندما سمع الصحابة ذات ليلة صيحة، فخرجوا -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشجع الناس، وهذا الحديث من السير يمثل به العلماء على شجاعته عليه الصلاة والسلام- فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد رجع من عند الصوت، وهو يقول: (لا تراعوا)، وكان عليه الصلاة والسلام قد ركب على فرس أبي طلحة من غير سرج، وأخذوا من هذا الحديث -يقولون- ما لا يقل عن ثلاثين فائدة، منها: استعمال مال الغير عند الحاجة مع بقاء العين، وقيل في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7] قيل: الماعون: هو الإناء، وهذا قول لبعض العلماء، ولكن قول طائفة من أئمة اللغة، وهو معروف في لسان العرب، واختاره بعض أئمة التفسير، ومحفوظ عن أئمة الصحابة أن الماعون: كل ما يحتاج إليه الإنسان؛ لأنه من المعونة، والآية فيها وعيد شديد على أن للإنسان الذي يرى أخاه محتاجاً إلى شيء زائد عنه ثم لا يعطيه ذلك الفضل، وهذا هو المعنى الصحيح، وقد أشار إليه الأئمة كالإمام القرطبي وغيره من المفسرين، وعلى هذا لا يمنعه مالك الحاجة.
واختلف العلماء لو رأى شخصاً بين الحياة والموت, وعلم أنه لو لم يركب معه أنه سيموت، وامتنع من إركابه؛ فـ ابن حزم يرى أنه قاتل، وأنه يقتل به، وهذا من مسائله الغريبة، لكنه سيكون عليه إثم عظيم، وهذه سببية، لكنها سببية لا تفضي للزهوق، ولم يقصد بها الزهوق، ولم يقصد بها الإتلاف؛ لأنه قد يمتنع لعارض، وليس كل من يمتنع معناه أنه يريد أن يقتل أخاه، كأن تمر على شخص في الطريق في شدة الظهيرة وهو واقف فتمتنع من إركابه، كأن تكون معك عائلة، أو تخشى على عرض، أو تخشى على شيء، وهذا شيء آخر، أو وجدت شبهة وريبة، وإلا والله الأمر عظيم في منع المسلم لأخيه المسلم ما يحتاجه.
قال رحمه الله: [لدفع بردٍ، أو استسقاء ماء، ونحوه]: لدفع برد: أي من أجل دفع البرد، وإذا كان يريد منك لحافاً (بطانية)، أو استسقاء: مثل أن يريد الدلو للبئر، فحينئذ ينبغي للإنسان أن يساعده.
[وجب بذله له مجاناً]: معناه: أنه يأثم إذا لم يعطه، وفي حال الاضطرار يصير واجباً عليك، وفي حال الاختيار يكون غير واجب؛ لأنه يجد مندوحة، وعنده القدرة أن يشتري، لكن شخص مضطر يريد أن يشرب ماء ولا يجد إلا دلوك من أجل أن يغرف به فتعطيه، أو رجل يرتعش من شدة البرد، والضرر سيأتيه في بدنه، وعندك مثلاً لحاف، أو بطانية، أو كوت، أو نحو ذلك، وتستطيع أن تعطيه إياه، أو في شدة الحر يمشي على الوهيج، وقد يتأذى يتضرر، وعندك حذاء-أكرمكم الله- زائد عن حاجتك، وجب بذله، قال: (وجب) يعني: يأثم إذا امتنع.
قال رحمه الله: [ومن مر بثمر بستان في شجرة، أو متساقط عنه، ولا حائط عليه ولا ناظر، فله الأكل مجاناً منه، من غير حمل]: من مر بثمر داخل بستان: ينادي على صاحبه، فإذا لم يأت صاحبه حل له أن يأكل غير متمون، ولا يرمي الشجر فيسقط ما عليه، له أن يأكل ما أسقطه النخيل أو ما أسقطته الرياح من النخيل، وله أن يلتقط من الفواكه غير متمون، وفيها حديث السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (ينادي على صاحب البستان ثلاثاً، ثم يأكل بالمعروف).
قال رحمه الله: [وتجب ضيافة المسلم المجتاز به في القرى يوماً وليلة].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) فالمسلم إذا اجتاز بالقرى، فيجب على أهل القرية أن يكرموه، فإذا تبرع شخص أن يؤويه، وتبرع آخر أن يطعمه، سقط الإثم عن الجميع، وإلا أثموا، فعندما يمر الضيف أو يمر المسلم بإخوانه المسلمين ولا يجد من يضيفه، هذا من أسوأ ما يكون.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا.