قال: [وما يستخبث كالقنفذ، والنيص، والفأرة، والحية، والحشرات كلها، والوطواط، وما تولد من مأكول، وغيره كالبغل] قوله: [وما يستخبث]: الأصل في تحريمه قوله تعالى: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، والأصل عند جمهور العلماء أن العبرة بالاستخباث العرب؛ لأن بيئتهم هي أوسط البيئات، وطبائعهم هي أعدل الطبائع، لما جبلهم الله عز وجل عليه من الصفات، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله اختارهم واصطفاهم.
وهذا الاختيار من الله عز وجل والاصطفاء، فيما جبلوا عليه من النعم التي وضعها الله عز وجل في طبائعهم.
فما استخبثته العرب فهو خبيث، وما استطابته فهو طيب، ثم ينظر: العرب فيهم بادية وحاضرة، وفيهم الغني والفقير، وفيهم أزمنة الرخاء وأزمنة الشدة، فهل نحكم في الاستخباث والطيب بضابط معين؟ أو يترك الأمر هكذا؟ الذي عليه المحققون: أن الاستخباث والطيب أمر نسبي، وأن العبرة فيه بأعدل الناس، لأن الغني يستخبث ما يستطيبه الفقير، فلو أنه جُعل الاستخباث للأغنياء لعظم التحريم، ولم يبق شيء إلا حرم؛ لأنهم لا يأكلون إلا شيئاً معيناً خاصاً، ولذا نُظر إلى الأعدل في هذا، قيل: إنه يُنظر إلى الفقراء.
أما بالنسبة للمدن، والقرى، والبادية، فينظر إلى الوسط بينها؛ لأن البادية بحكم شدة الظروف فيهم من الجلد والقوة ما ليس بالحاضرة، ولذلك يقوون على بعض الأشياء، ويرون أنها مستطابة، وقد يكون العرب في الحاضرة لا يستطيبونها، فلو قيل: إن العبرة بطبائع البادية، لحصل توسع، ولذلك قالوا: ينظر إلى الطبائع المعتدلة في القرى، والهجر، ونحوها.
كذلك أيضاً بالنسبة للغنى والفقر، وأزمنة الخصب والجدب، فإن العبرة بالوسط بين الحالتين، وهو الذي يعتبر فيه الاستخباث وعدمه، وليس فيه إشكال إلا قليل جداً؛ لأنه ما حدث الخلاف بين العلماء إلا في مسائل معدودة، لأن كثيراً منها وردت بها النصوص، وحُل إشكالها؛ لأنه لم يُترك الشرع إلى طبائع الناس، وإنما هو وارد في بعض المسائل المحددة، وقد اختلف فيها، مثلاً: بعض الدواب مثل القنفذ، هل هو مستخبث أو ليس بمستخبث؟ حصل الخلاف بين العلماء في هذا، لكن الأمر في الأوسط، وهو الذي عليه العمل عند المحققين رحمهم الله.
[كالقنفذ، والنيص]: القنفذ معروف؛ ذو الشوك، وهو حيوان يعدو بشوكه على الأفاعي، واستخباثه من جهة مطعمه، وتستخبث النفوس أكله، وأُثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنهم حرموا أكله، ونصوا على ذلك، كما أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما، وغيره.
[والنيص]: قيل: إنه أكبر القنافذ أي: شيخ القنافذ، ويأخذ حكم التابع لما قبله، وقيل غير ذلك، ويقال له: (الدلدل) وعلى كل حال هو آخذ حكم القنافذ؛ لأن الخبث فيه من جهة أنه يعدو على الحيات والأفاعي، وهو يتكور، فتؤذيه الحية حتى يقتلها بشوكه، وقيل: إن النيص يلقي شوكه، والقنفذ لا يلقي شوكه، يعني: يرمي النيص، لكن هذا اختلف فيه بين العلماء رحمهم الله، وسواء هذا أو هذا، كلاهما شر.
[والفأرة]: النص فيها واضح، وخبثها معلوم، حتى إن الأطباء -والعياذ بالله- ذكروا أنها من أسباب الطاعون.
[والحية]: لا يجوز أكل الحيات؛ لما فيها من الضرر، وقد عدها النبي صلى الله عيه وسلم من الفواسق.
[والحشرات كلها]: لا يجوز أكل الحشرات؛ لأنها مستخبثة، إلا الدود الذي يكون في الطعام، مما لا نفس له سائلة، كدود التمر، ودود الحب، فهذا طاهر، ويجوز أكله، والأصل في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحلت لنا ميتتان، ودمان، أما الميتتان: فالجراد، والحوت)، فجعل الجراد من الميتات يؤكل بغير ذكاة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقتلونه بالرماح، والجراد مما لا نفس له سائلة، ولذلك دود التمر، وسوس التمر، والسوس الذي يكون في الحبوب ونحوها، يجوز أكله مع أنه من الحشرات، ولا يعتبر محرماً.
[والوطواط]: كذلك لاستخباثه، وقد أثر عن السلف رحمهم الله خبث لحمه.
[وما تولد من مأكول وغيره، كالبغل]: البغل يتولد من الحمار ومن الخيل، فإذا غُلب الحلال، فإنه يقال بجواز أكله، وإن غُلب الحرام، فيقال بتحريم أكله، والذي عليه المحققون: أنه إذا اجتمع الحل والحرمة في الدواب، كأن يكون متولداً من حلال وحرام، سواءً كانت الأنثى الحلال، أو العكس، فالحكم في الجميع التحريم، والسبب في ذلك: أنه ليس فيه ذرة من لحمه إلا وفيها اختلاط حلال بحرام.
وهذا لا يجوز أكل السنع والسيعار، والسنع من الذئب والضبع، والسيعار من الكلب والضبع، وقيل أيضاً: النعجة قد ينزو عليها الكلب-أكرمكم الله- فتأتي بنصف شبه للكلب، ونصف شبه للبهيمة، فكل هذا محرم؛ لأنه ليس فيه شيء إلا وقد اشترك فيه الحلال والحرام، ولا يشكل على هذا مسألة من كان يتعامل بالربا، إذا أردت أن تأخذ منه ديناً، أو استضافك، وقد اختلط ماله الحلال بماله الحرام، فليس من هذا، ولذلك قالوا: من اختلط ماله الحلال بماله الحرام لا يمتنع إلا إذا جزم بأن هذا المال من الحرام، وعلم أن هذا المال الذي يأكل منه من الحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من شاة اليهودية، واستضافه اليهودي كما في الحديث المسند على خبز وإهالة سخنة، وأكل صلى الله عليه وسلم، لأن عين المال لم يجزم بحرمته، فبقي على الأصل من حله.