ثم تجد زنا اللسان، اللسان يزني بالكلمات الفاحشة البذيئة، بالتسلط على عورات المسلمين بالمغازلة، يكلم أمة من إماء الله عز وجل يستدرجها إلى الحرام، إلى الفواحش والآثام، فتجد الفاحشة في لسانه، ولذلك قلّ أن تجد أحداً ممن يسترسل في أذية النساء بلسانه فيرزق القول السديد؛ لأن ذنب اللسان لا يجتمع معه نور القول والعمل، فنور الإيمان لا يجتمع مع معصية الله عز وجل، فتجده لا يوفق في كلامه، ولا يوفق في قوله، ولا يرزق القول السديد.
وتجده فاحشاً في قوله، حتى لربما يجلس مع بعض إخوانه فتجد زلات اللسان واضحة لا يستطيع أن يتحكم: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ) [آل عمران:117]، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10]، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، من الفحش وغيره.
كذلك يقول: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:32]، يعني الزنا، فهو إذا تسلط على عورات المسلمين بالكلام، لا يمكن أن يحول بين نفسه وبين الفحش.
وإذا تسلط على عورات المسلمين بالمشي، (وزنا الرجل المشي) كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فتجده يخرج في ظلمات الليل وفي مظان الريب، من أجل أن يبحث عن عورة من عورات المسلمين.
والمرأة الفاسدة والعياذ بالله تجدها أفحش، ولذلك بدأ الله في الزنا بالنساء؛ لأن المرأة لو استعصمت بعصمة الله ما وقعت في الحرام ولا وقع منها الزنا، ولذلك قال: ((الزَّانِيَةُ والزاني))، فبدأ بها، ولما كانت السرقة غالباً تأتي من القوي وهو الرجل قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38]، فقدم النساء في الزنا وقدم الرجال في السرقة، وكل له ما يناسبه وما يشاكله.
فالمرأة إذا زنت أصبحت تحب سماع الخنا والفجور، تجدها والعياذ بالله متفحشة، لا تريد أن تسمع إلا كلاماً بذيئاً ساقطاً، وتستعذب ذلك، وليأتين عليها يوم تتجرع فيه مرارة ما كسبت، إما عاجلاً أو آجلاً.
يقول الله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:32]، هذا في مقدمات الزنا، فكيف بفعل الزنا، والذي يقع في الزنا والعياذ بالله أفحش ويكون بلغ الفحش به غايته؛ فتجده لا يتورع عن حرام من سيئات الفرج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والفرج يصدق ذلك أو يكذبه).
في هذه الآية يقول الله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ} [الإسراء:32]، وقع التعبير بكان التي تدل على الدوام والاستمرار، فالتصق الزنا مع الفحش ولا يمكن أن يفارق الزنا الفحش، {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] أي: ساء طريقاً.
فمن سلك طريق الزنا بكت عيناه وتقرح قلبه، وإن لم يتب إلى الله عز وجل فلربما قاده ذلك إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله، وكما يقول: ساء سبيلاً، فمن يزني بإماء الله ويتعرض لعورات المسلمين؛ ليبكينه الله في الدنيا أو يبكينه في الآخرة أو يجمع له بين البكائين في الدنيا والآخرة، فمن تسلط على عورات المسلمين واستدرج الغافلات، واستدرج النساء، وأوقعهن في حبائله وأمنياته المكذوبة فلابد وأن يسوء سبيله وتسوء خاتمته، ولذلك تجد من يستمرئ هذه العادة في أسوء الأحوال، وما سميت السيئة سيئة إلا لأنها تسيء إلى صاحبها.
ولقد رأيت بعيني رجلاً كان فاحشاً متفحشاً بذيئاً، متسلطاً على عورات المسلمين، وجاءني أكثر من شخص يشتكي منه، وكان معنا في الدراسة، ووعظته أكثر من مرة ولم أستطع أن أقول له: بلغنا عنك كذا وكذا؛ لأنني لا أستطيع أن أتهم الناس، ولكني ذكرته بالله بما ظهر لي من حال، فما كان إلا أن استهزأ واستخف، فوالله الذي لا إله غيره! ولا رب سواه! لقد رأيته في حادث فكانت خاتمته من أسوأ الخواتم، وكان جريئاً على استدراج البرآء وضعفاء الصغار ونحو ذلك إلى الفساد والعياذ بالله، فلا يحسب أحد أن الكون همل وأن عورات المؤمنين سهلة، فمنهم من يبتلى بالشرود الذهني، ومنهم من يبتلى بشتات النفس، ومنهم من يبتلى بالفقر، ومنهم من تضرب عليه الذلة والعياذ بالله، ومنهم من ينطفئ نور الإيمان في وجهه، إلخ.
{وَسَاءَ سَبِيلًا}، والعاقل الحكيم لا يمكن أن يستدرج نفسه إلى عواقب السوء والعياذ بالله (وساء سبيلاً): نكرة، أي: ساء طريقاً على أيٍ كان هذا الزنا.
كذلك الاعتداء على العرض كما يكون بالزنا؛ يكون بالقذف: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} تعبير بالتوكيد: إن {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]، وعيد شديد! كون الله سبحانه وتعالى ينظر إلى النساء الصالحات الغافلات المؤمنات، ويغار عليهن سبحانه من فوق سبع سماوات، فلا يظنن أحد أن أعراض المسلمين رخيصة، ولا يظنن أحد أن اللسان لا سلطان عليه، والله سبحانه وتعالى قد حذر من الوقوع في حقوق الناس، ولذلك تجد أن العواقب الوخيمة في إضاعة حقوق الناس أليمة في الدنيا والآخرة، وجاءت الصيغ في القرآن والسنة في المنهيات، من حقوق الناس من أبلغ ما تكون، ولذلك تجد مثلاً في النميمة، وهي نقل الحديث بين الناس: يمر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فيقول: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فقد كان يمشي بالنميمة ... )، نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، الذي يقول الله له يوم العرض الأكبر: (ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع)، فيشفع في الأولين والآخرين، ولم يستطع أن يشفع في رفع العذاب عن نمام، إنما قال: (لعله أن يخفف عنه ما لم تيبسا)، لا يرفع العذاب وإنما يخفف فقط؛ لأن حقوق الناس أمرها عظيم.
وهذا نذير من الله عز وجل؛ فإن استطعت أن تخرج من الدنيا ولم تسب مسلماً ولم تتهم مسلماً في عرضه، ولم تتهمه في فكره ومنهجه وعقيدته، وتخرج وأنت خفيف الظهر والحمل من حقوق المسلمين، فافعل ذلك رحمك الله، وإلا لتندمن وليطولن ندمك، ولتندمن حين لا ينفع الندم.
فهنا في القذف يقول الله عز وجل: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:23]، فلهم لعنة الدنيا ولهم لعنة الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]، وصف العذاب بكونه عظيماً، وكأن سائلاً سأل: ما هو هذا العذاب العظيم يا رب؟! متى يكون؟ وأين يكون؟ فإذا به يقول: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور:24]، التي كانت لا تبالي بأعراض المسلمين، هذه الألسنة التي كانت سليقة حادة: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19]، هذه الألسنة التي لا تبالي بحرمة، إذا به سبحانه يخبر أن هذه الألسنة التي أذنبت تشهد، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
ورد في بعض الآثار أن العبد يقول حينما تشهد عليه الملائكة (يا رب! لا أرضى حتى تقيم عليّ شاهداً من نفسي، فيقول: من نفسك؟ قال: نعم، فيختم الله عز وجل على فيه، ويتكلم فرجه، وتتكلم رجله، وتتكلم يده)، في يوم يسوؤه كلام ويسوؤه ما يسمعه، فإذا به يخبر الله عز وجل أنه تشهد عليهم ألسنتهم بما رتعوا في أعراض المؤمنين والمؤمنات، وما استحلوا من محارم الله.
كم من أمة من إماء الله عز وجل سهرت ليلها تبكي، وأصبحت نهارها متقرحة القلب تشتكي إلى جبار السماوات والأرض من المظالم في اتهامها في عرضها، وكم من طالب علم وعالم وداعية وصالح يتهم في فكره ومنهجه، فلا يحسب أحد أن أعراض المسلمين رخيصة، وإن هذا اللسان الذي يرتع ليعاقب به العبد إذا كان يرتع في العرض؛ فكيف بالدين؟ وكيف بالفكر؟ وكيف بالمنهج؟ جعل الله عز وجل هذه الجرائم محل المقت في قلوب المسلمين، وليس هناك أحد هذب أخلاق المسلمين وقوّم سلوكهم وسدد وصوّب اتجاههم، مثل ما جاء في كتاب الله عز وجل.
ومن هنا يتضح لنا كيف بيّن الله عز وجل عظم الاعتداء عن العرض، وكيف حذر من هذا الذنب.