Q لقد حرص الإسلام على وحدة الصف، وعدم تفرق الجماعة، ولذلك شرع قتال أهل البغي، فكيف يتأتى للمسلم أن يحافظ على جماعة المسلمين، وكيف يتعامل مع كل ما يزعزع ذلك أثابكم الله؟
صلى الله عليه وسلم باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالنصوص في الكتاب والسنة واضحة في لزوم جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لإمامهم، وجاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من معجزاته التي تضمنت الخبر والإنشاء، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم عما يكون بين يدي الساعة من فتن الأئمة، ومن حدوث الجور والظلم، وهضم الحقوق، ولكن أمر بالصبر ولزوم جماعة المسلمين وعدم الخروج عليهم، وهذا هو الأصل عند أهل السنة والجماعة.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة) وقال الصحابي كما في أكثر من حديث: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وألا ننازع الأمر أهله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) ولما ذكر صلى الله عليه وسلم أئمة الجور والظلم؛ قالوا: (يا رسول الله! أفلا نناجزهم بالسيوف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) وهذا نص صريح واضح في عدم الخروج.
ومن نظر إلى حال السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين لهم بإحسان، يجد هذا جلياً واضحاً، ولا أظن أن هذا يخفى على أحد من طلبة العلم، ولكن ينبغي على طالب العلم مع هذا كله أن ينصح وأن يبين الحق، سواء كان لمن يخطئ، أو لمن يخرج عن جماعة المسلمين، فيحرص على بيان مذهب أهل السنة والجماعة له وتوضيحه.
والواجب على الناس أن يلتزموا هذا الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وبين أن صلاح الأمة موقوف عليه، ومن نظر في تاريخ الأمة وجد أن كثيراً من الحوادث والمصائب والفتن التي وقعت كانت عواقبها وخيمة، والناس ينبغي عليهم أن يلتزموا هذا الأصل الذي أجمع عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين رحمهم الله أجمعين وألحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين، ولا مغيرين ولا مبدلين.
أما الواجب على المسلم فهو أن يثبت على الحق، وعليه أن يدرك أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، فإذا عرف الحق عمل به ولا عليه من أحد، وعليه أن يثبت وألا يضعف ولا يصيبه الخور، ولا ينتظر أن الناس تجتمع عليه، أو يكثر سواده، فالحق لا يكثر سواده، الحق يستمد قوته من نفسه، وعلينا أن ندرك أن هذا الكتاب المنزل على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كان فيه رجل واحد، كان في كهف مظلم، وأشرقت به دياجير الظُلْمِ والظُلَم من مشارق الأرض إلى مغاربها.
نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء وهو وحده صلوات الله وسلامه عليه، فابتدأ بواحد وانتهى بأمم لا يحصيها إلا الله جل جلاله، فالحق لا ينصره كثرة الناس أو كثرة الأتباع والأشياع؛ لأنه يستمد قوته من ذاته، وكل من قال بالحق فقد صدق، وكل من قال به وحكم به فقد عدل، وكل من لزم سبيله فقد استقام له دينه، وعليه أن يدرك أنه ما دام على هذا الأصل الذي دل عليه نص الكتاب والسنة، وسار عليه السلف الصالح لهذه الأمة، فليس عليه بعد ذلك من شيء، بمعنى أن الفتن التي تقع والإرجاف والتشكيك والتخذيل لا يلتفت إليه، ومن المعروف دائماً أن أهل الحق لا يمكن أن يخلو لهم زمان من فتن ومحن، فإن هذه الأمة ممتحنة.
فعجب والله! خليفة راشد من العشرة المبشرين بالجنة هو عثمان رضي الله عنه يقتل في الشهر الحرام، في البلد الحرام، بجوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، صائماً، وهو ابن ثمانين سنة، على كتاب الله! أمة ممتحنة لكنها والله قوية، ومن ظن أنها ضعيفة فهو الضعيف، ومن ظن أنها مخذولة فهو المخذول، الحق لا يقوى بالناس ولا يقوى بالشعبية ولا يقوى بالكثرة، الحق يستمد قوته من ذاته: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء:18] ما قال بأهل الحق: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18].
فعلى كل طالب علم وعلى كل إنسان إذا علم مذهب أهل السنة والجماعة في لزوم جماعة المسلمين ألا يلتفت إلى إرجاف المرجفين، ولا إلى تثبيط المثبطين، عليه أن يثبت وألا يبالي بأحد، وسيأتي اليوم الذي يرى فيه عاقبة ما ألهمه الله من صواب، وما حرمه من غيره.
كذلك أيضاً على المسلم أن يبذل ما عنده، إذا رأى إنساناً يحتاج إلى النصيحة نصحه، كم من شباب من أبناء المسلمين ينتظرون من يبين لهم الحق والصواب والرشد، فإذا وجد أحداً يحتاج إلى التوجيه وجه ولا يشتغل بأهل الفتن، ولا يضيع وقته معهم؛ لأن مناظرة هؤلاء وكثرة مناظرتهم إذا لم يكن عند الإنسان علم لا يأمن أن يقع في قلبه شيء، وكان السلف الصالح رحمهم الله يحذرون من أهل الأهواء والجلوس معهم وكثرة مناظرتهم؛ لأنه لا يأمن الإنسان أن يقذف في قلبه شيء.
إذا عرفت الحق فتمسك به، وهذا الذي تعبدك الله به، ولا يمنعك هذا أن تنصح من يستنصح، أو تقيم الحجة على من يجهل، أو تهدي من ضل، وأهم من ذلك كله هو أن تتمسك بالحق، وألا تلتفت إلى من يخذلك أو يثبطك عنه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يثبتنا على ذلك، وأن يلهمنا الرشد.
جماعة المسلمين أمرها عظيم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من فارق الجماعة وترك الطاعة فمات؛ فميتته ميتة جاهلية) فعلى الإنسان أن يسأل جماعة المسلمين وإمامهم، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة في الأئمة والحكام: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) أي: هم يتحملون الأخطاء ويسألون أمام الله عز وجل، ويحاسبون عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن على الإنسان أن يؤدي الحق الذي عليه.
ومن هنا فالواجب على طالب العلم أن يتمسك بمذهب أهل السنة والجماعة، وأن يلزم هذا الأصل، وألا يبالي بمن يشككه أو يوهنه، فالحق يعلو ولا يعلى عليه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.