Q جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل الذين قتلوا الراعي، بل قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وهم قد قتلوا الراعي، فلماذا لم يقتلوا في الحال أثابكم الله؟
صلى الله عليه وسلم قضية العرنيين فيها كلام طويل للعلماء رحمهم الله، واختلف أئمة التفسير في الجمع بين آية المائدة وبين حديث العرنيين، حتى إن بعض العلماء يرى أن الآية ناسخة لحديث العرنيين، وأن حديث العرنيين جاء على وجه خاص لأن فيه شيئاً من التمثيل، والصحيح أنه لا تعارض بين الآية والحديث، وكلٌ قد خرج من مشكاة واحدة وهو الوحي: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] عليه الصلاة والسلام {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] فأما بالنسبة للعرنيين فحصل منهم أمران: الأمر الأول: الاعتداء على بيت مال المسلمين.
الأمر الثاني: الاعتداء على الراعي نفسه.
وهناك أمر ثالث ورد في بعض الروايات واختاره بعض العلماء أنه حصل منهم موجب الردة، أي: أنهم ارتدوا، حتى أن بعض العلماء لما جاء في سبب نزول الآية ذكر أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان يرى أن الآية نزلت في العرنيين، وأن قضية العرنيين هي سبب نزول آية المائدة، ولكن خالف الجمهور في هذه المسألة، وهناك قول أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب آخر من الأسباب، وهو أن الآية نزلت في قوم ارتدوا، وهو القول الثالث في سبب نزول الآية، وهذا القول الذي قيل فيه: إنها نزلت في قوم ارتدوا، يعني العرنيين، لأنه وقع منهم الردة بناءً على الرواية التي ذكرناها وأشرنا إليها.
وحينئذٍ لا تستطيع أن تعطي مسألة العرنيين مسألة ما نحن فيه؛ لأن العرنيين إن جئت تنظر إلى الاعتداء على المال فهو موجود، والاعتداء على الأشخاص بتسميل عين الراعي، لأنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم بالنار، فكان يؤخذ المرود ويُحمى بالنار ثم يوضع في عينه حتى تسيل، وهذا من أشد ما يكون مثلة، ومن هنا قالوا: هذه العقوبة لا تتأتى مع الأصل الشرعي في النهي عن المثلة، وهذا الذي جعل بعض العلماء لم ينظروا إلى رواية تسميل عين الراعي، وإنما نظروا إلى أصل الحديث؛ لأن بعضهم ينظر إلى أصل الرواية وهي أنهم اعتدوا على المال وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن هنا قالوا: إن هذا تمثيل منهي عنه شرعاً؛ لأنه لا يجوز التمثيل بعين الجاني إلا إذا مثل بعين غيره فإنه حينئذٍ يمثل به {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194].
فالشاهد من هذا أننا ننظر إلى جريمتهم في حق الراعي وجريمتهم في حق المال، وردتهم عن الإسلام، فهذه ثلاث جرائم، والنبي صلى الله عليه وسلم جمع لهم بين عقوبة المال في قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وبين عقوبة المثل في تسميل أعينهم، وبين عقوبة القتل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، وهذا هو القتل البطيء، فهو لم يقتلهم مباشرة لكنه قتلهم قتلاً بطيئاً؛ لأنه إذا حبس الماء عنهم قتلوا، ومنع الماء عن العطشان نوع من القتل، وقد ذكرنا هذا في القتل بالسببية، وجاء في الرواية: (فلقد رأيت أحدهم يكدم بفمه الأرض -من شدة العطش - وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون).
فهذا فيه قتل وفيه قطع، وفيه عقوبة للردة بقتلهم واستباحة دمائهم، وفيه عقوبة للمال بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وفيه عقوبة بالمثل بتسميل أعينهم، فإذا نظرنا إلى أنه لا بد أن يقتلهم مباشرة جاء على هذه كلها، وهو عليه الصلاة والسلام مشرع للأمة، فلما أعطى كل جريمة حقها وحظها كان هذا غاية العدل والقضاء وأتم ما يكون عليه القضاء والحكم، فكل جريمة وقعت منهم وجد لها علاج، ووجد لها عقوبة، وهذا ما نعنيه بالنظرة الشمولية في العقوبة، أي: أن الإنسان حينما ينظر نظرة شاملة للجريمة ويجد عقوبتها مناسبة لكل شيء وقع من الجاني؛ فهذا أبلغ في عقوبة الجاني وأبلغ في ردع الغير عن أن يسلك مسلكه، والنبي صلى الله عليه وسلم له المقام الأعظم والمنزلة الأتم في الحكم بين العباد صلوات ربي وسلامه عليه.
ولما أمسك الرجل بردائه صلوات الله وسلامه عليه، قال له: اعدل يا محمد! قال: (ويحك! ومن يعدل إن لم أعدل؟)، فمن الذي يعدل إذا لم يعدل النبي صلوات ربي وسلامه عليه، فالشاهد من هذا أنه عدل، فأعطى حق الله عز وجل بقتلهم بالردة، وأعطى المخلوق حقه حينما سمل أعينهم، وأعطى بيت مال المسلمين حقه حينما قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
فلا يشكل حديث العرنيين على الآية، إنما يشكل إذا نظرنا إليه من بعض الجوانب وقيل إنه ليس فيه قتل، وقد قلنا: إنهم إذا اعتدوا على المال وقتلوا فإنهم يقتلون، فكيف لا يوجد قتل وقد قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والصحيح أنه قتل بطيء؛ لكن هذا النوع من القتل لا نستخدمه في حكم الحرابة؛ لأنها جاءت نصوص تورد الشبهة، وهي نصوص النهي عن المثلة والتعذيب، ومن هنا لما تعارض عندنا هل هذا سابق للنهي أو متأخر عنه قلنا: الاحتياط أن نأخذ بالنهي؛ لأن آخر الأمرين نهيه عليه الصلاة والسلام عن المثلة، وعلى هذا فلا إشكال ولا تعارض إذا حمل على أول الأمر، والله تعالى أعلم.