أما دليل السنة فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أن أناساً من عرينة قدموا المدينة، فاجتووها) أي: أصابهم الجوى، والجوى: نوع من الأمراض يأتي الإنسان عند اختلاف الطعام عليه، واختلاف المكان والبيئة (فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم، فأمرهم أن يلحقوا بإبل الصدقة، فخرجوا إلى إبل الصدقة، فلما صحوا ووجدوا العافية قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، فجاء الصارخ في أمرهم إلى المدينة، فما غابت الشمس حتى أتي بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسملت أعينهم) أي: أمر بالمسامير فأحميت بالنار، ثم سملت بها أعينهم.
قيل: إنهم سملوا عين الراعي فسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وهذا هو الصحيح، والرواية في هذا صحيحة: (ثم تركوا في الحرّة) وهي من حرار المدينة، والمدينة لها حرتان، والظاهر أنها حرة الوبرة، وهي الأقرب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأقرب في تنفيذ الحد فيها (يستسقون فلا يسقون حتى هلَكوا)، قال الراوي عن أنس رضي الله عنه: (قد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفمه من شدة العطش).
هذه هي الشريعة التي وضعت الحزم في موضعه، والرفق في موضعه، والرحمة في موضعها، وحينئذٍ أعطت الناس حقوقهم، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت حد الحرابة كما أثبتها القرآن.
واختلف العلماء رحمهم الله: هل نزول آية المائدة سببه هذه القصة؟ - من أهل العلم رحمهم الله من قال: إن سبب نزول هذه الآية قصة العرنيين، وحينئذٍ تكون نازلة في قوم مخصوصين، وينظر إلى عموم لفظها؛ لأن اللفظ عام: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ} [المائدة:33] وهذا فيه عموم.
وبناءً على ذلك تكون نازلة في المسلمين.
وقيل: إنهم ارتدوا، وهذا أحد الأوجه، فتصبح نازلة في أهل الردة وهو الوجه الثاني لسبب نزول الآية.
وقيل: إنهم كانوا على الإسلام ولكنهم بطروا النعمة، وكفروا نعمة الله عز وجل عليهم، وقابلوا المعروف بالإساءة، فتكون حينئذٍ مشروعة في المسلمين.
ومن أهل العلم رحمهم الله من قال: إن الآية لم تنزل في العرنيين، وإنما نزلت بعد العرنيين، وهذا يترتب عليه أمر، وهو أنا إذا قلنا: سمل العينين والتمثيل بهم لم يكن بسبب أنهم فعلوا ذلك بالراعي، فحينئذٍ تكون نسخاً للمثلة ويكون لها حكم خاص، وهذا القول يختاره جمهور العلماء، والقول بأنها نزلت في العرنيين قال به أنس بن مالك وقتادة بن دعامة السدوسي الإمام المشهور، ومذهب الجمهور على أن الآية عامة، وأن الله سبحانه وتعالى أنزلها للمسلمين تشريعاً لهذا الحد.