قال رحمه الله: [وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت].
(وجب) بمعنى: ثبت، فإذا وجب القطع وثبت فإننا نحكم بحد الله عز وجل وينفذ هذا الحد ولا يؤخر كما ذكرنا.
وقوله: (قطعت يده اليمنى)، الدليل على ذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، وفي قراءة ابن مسعود ((أيمانهما))، ودرج الصحابة رضوان الله عليهم وأئمة السلف والجماهير على قطع اليد اليمين؛ لأنها في الغالب التي يتعاطى بها السرقة، وهي التي فيها القوة، وهي التي فيها الأذية والضرر، فقطعها أبلغ، فتقطع يده اليمنى.
وقد بين رحمه الله أنها تقطع من مفصل الكف مع الساعد، فمن طرف تشد اليد كما ذكر العلماء والأئمة رحمهم الله حتى إذا قطعت، وذلك أبلغ في انفصالها وبيانها، فتقطع من مفصل الكف مع الساعد، وهناك قول ضعيف وشاذ: إنها تقطع من المنكب.
والصحيح: أنها تقطع من مفصل الكف، وعليه درج أئمة الصحابة رضوان الله عليهم في أقضيتهم، فإنهم قطعوا من مفصل الكف، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قدم اليمين وأن القطع يكون لليمين، وظاهر هذا أنها تقطع اليد سواءً كانت صحيحة كاملة أو كانت معيبة أو ناقصة، فلو أنه في يمينه مقطوع الأصابع أو بعضها قطعت يده ولو كانت معيبة على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من فرق بين أن تكون أكثر الأصابع مقطوعة أو أقلها، ومن أهل العلم من قال: إنها تقطع من عند الأصابع، وهذا كله ضعيف.
والصحيح أنه إذا كانت اليد موجودة قطعت.
واختلف في اليد المشلولة هل تقطع أو لا تقطع؟ فمن أهل العلم من منع من القطع، وعلل ذلك بأنه ربما نزف وحصل الضرر وقد يموت؛ لأن اليد المشلولة لا يتحكم في دمها، ومن أهل العلم من توسط كما اختاره الإمام النووي وغيره أنه يرجع إلى قول أهل الخبرة، فإذا كان الأطباء يستطيعون حسمها فإنها تقطع.
والأصل: أنها تقطع بالألم، فلا يكون القطع بالتخدير، فلا تخدر يده، والمقصود إيلامه حتى يشعر بجريمته وجنايته.
والحسم المراد به: وضعها في الزيت أو الدهن المغلي؛ لأن اليد إذا قُطعت نزف الدم، وإذا نزف الدم هلك الإنسان، فلابد أن الدم يمنع ويحبس، وجاء في الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي والدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه الأمر بحسم اليد إذا قطعت، منعاً من النزيف، والحديث فيه كلام، ولكن العمل عليه عند جمهور العلماء؛ لأنه يعضده مراسيل وموقوفات على الصحابة رضوان الله عليهم، لكن في زماننا -والحمد لله- يوجد طرق لإيقاف الدم وإيقاف النزيف.
وهنا مسألة معاصرة، وهي: أنه بإمكان الأطباء أن يعيدوا اليد بعد قطعها، فبعد تطور الطب وسهولة الجراحات الدقيقة بإمكانهم أن يعيدوا اليد بعد قطعها، والعجيب أن بعض المتأخرين أفتى بجواز ذلك! وهذا من أغرب ما يكون، فيقول: وضع التخدير إذا قطعت، ثم إذا قطعت ترد! إذاً: ماذا جرى؟ تقطع يد السارق اليوم وغداً تعود إليه! فأين العبرة؟ وأين الاتعاظ؟ والحدود شرعها الله زواجر وجوابر.
(جوابر): للنقص الذي في المكلف حينما عصى الله عز وجل فيجبر الله كسره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فأقمنا عليه حد الله فهو كفارة له)، فأثبت أن الحدود كفارات، فهي جوابر لنقص العبد.
(وزواجر): لأن من رأى هذه اليد المقطوعة اتعظ واعتبر وارتدع ولم تسول له نفسه ذلك، فإذا قطعت يده ورجعت لم تعد زاجرة ولا جابرة، فهو في نفسه لم يتألم، فلم يحصل له الألم الذي يعظه ويذكره؛ وأيضاً غيرة لم يره بهذه الحالة التي تزجره وتمنعه عن الوقوع في السرقة، ثم إنها إذا خدرت ولم يشعر بشيء لم يتعظ الناس، ولم يجدوا نوعاً من العبرة التي تردعهم عن حدود الله عز وجل ومحارمه، فالأصل يقتضي أن يقام حد الله عز وجل على الصفة الواردة.
قال رحمه الله: [ومن سرق شيئاً من غير حرز ثمراً كان أو كثراً أو غيرهما أضعفت عليه القيمة ولا قطع].
هذه مسألة التعزير بالمال، من سرق ما هو أقل من النصاب، أو من غير حرز، يعني: أخذ، وهو قال هنا: (سرق) تجوزاً؛ لأن السرقة لا تثبت إلا إذا كانت من حرز، فقوله: (من سرق) بمعنى: من أخذ، فمن أخذ مالاً دون النصاب، أو أخذ مالاً يبلغ النصاب ولكنه من غير حرز، بمعنى: أنه ما توافرت فيه شروط السرقة، فعند ذلك يعزر، وهذا ثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تضعف عليه القيمة، ويغرم قيمة الذي سرقه مرتين، ويعزر بما يليق به ويمنعه من العودة للجريمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أضعفت عليه الغرامة وعليه العقوبة) , فأمر بأمرين في تعزيره: الأمر الأول: مضاعفة قيمة المال المسروق.
الأمر الثاني: عقوبة السارق بالتعزير، فيعاقب بما يناسبه، إما بسجنه أو جلده أو توبيخه، على الأصل الذي ذكرناه في باب التعزير، فمن الناس من يعاقب بالقول ويكفيه، ومنهم من يعاقب بالضرب الذي يردعه، ومنهم من يعاقب بالسجن الذي يردعه، فكل على حسب حاله.