وأياً ما كان فإن ظاهر الحديث يدل على المنع من الزيادة على عشرة أسواط، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، ولا شك أن الأحوط أن يقتصر عليه، وعلى هذا فإنه يرد السؤال عن التعزير بالعقوبات الغليظة، فقالوا في الجلد: لا يزاد على هذا الحد -على الخلاف الذي ذكرناه- لكن هل يشرع التعزير بالعقوبات المالية؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات البدنية غير الجلد مثل الصفع؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات المغلظة كالقتل؟ ذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى جواز التعزير بغير الجلد، وأن التعزير أمرٌ مرده إلى القاضي، وهو يختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والجرائم، فإذا نظر القاضي إلى أن هذه الجرائم لا يردع فيها إلا بعقوبة غليظة؛ غلظ العقوبة، حتى ذهب الإمام مالك رحمه الله وأصحابه إلى جواز التعزير بالقتل، وأن من وقع في حدود الله عز وجل وتكرر منه ذلك، ورأى الإمام والقاضي والسلطان أن المصلحة في قتله حتى ينقطع شره وفساده، ويكون ذلك أبلغ في ردع غيره؛ فإن له ذلك، وقد اختار هذا القول بعض المحققين والأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة.
وقالوا: إن الأمر مرده إلى القضاة وإلى الولاة أن ينظروا الأصلح للناس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحل القتل تعزيراً في الخروج عن الجماعة؛ فقال كما في الصحيح: (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق كلمتكم وجماعتكم فاقتلوه كائناً من كان)، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالقتل، وهو أصل عند من يقول بجوازها، واحتج به شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة، وقالوا: إنه إذا وجد الشر والبلاء العام ولا ينقطع إلا باستئصال شأفة من فعل ذلك، فإنه يلجأ إلى مثل هذه العقوبات علاجاً للفساد وقطعاً لدابر أهله، وقد أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم عزروا، وبالغوا في التعزير أيضاً عند حصول الموجب.
ومن هنا قالوا: من تكررت منه جريمة الشرب فيعزر بالقتل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل شارب الخمر في الرابعة، قالوا: فهي من هذا الباب، فتكون عقوبة تعزيرية عند تكرر الجرائم، فإن من تكررت منه الجريمة وليس للجريمة عقوبة أو لها عقوبة وتكررت منه الجريمة على وجه فيه الاستخفاف والاحتقار للعقوبة، والتهتك في محارم الله عز وجل بعد أن عوقب فيرجع إليها المرة تلو المرة، ويتكرر منه ذلك؛ قالوا: إنه يشرع للإمام أن يقتله، وهذا المذهب هو من أقوى المذاهب في مسائل التعزير، ونظراً إلى المقصود العام، وهو أن المراد بالتعزير كف الناس وزجرهم عن حدود الله، وكف الناس وزجرهم عن بغي بعضهم على بعض، وأذية بعضهم لبعض.
ولذلك في بعض أنواع القتل مثل القتل غيلة، وهي أن يستدرج الرجل البريء المعصوم الدم، أو تفعل الجرائم المستبشعة، مثل أن يستدرج المرأة بطريقة خبيثة ويخدعها، أو يكون له ولاية، أو يكون له مكان يؤتمن فيه على مصالح المسلمين، فيستدرج لذلك على سبيل الأذية والإضرار بالمصالح العامة، قالوا: فيشرع فيه التعزير، فإذا استدرج المقتول من المدينة وأخرجه عنها ثم قتله؛ شرع للسلطان أن يقتله لهذا، ويكون الحق للعام لا للخاص، ذلك: كونه يستدرج في الجريمة بحيث يأمن المقتول، أو يؤخذ على طريقة فيها استهتار بدماء المسلمين، أو فيها بشاعة وشناعة، ورأى السلطان أن مثل هذا لا بد أن يعاقب بعقوبة تردع غيره عن فعله؛ فإنه يشرع له أن يقتله.
وما هي فائدة قولنا: إنه يقتله تعزيراً؟ إذا قلنا: للسلطان أن يقتله تعزيراً؛ فإنه لو عفا أولياء الدم فلن يسقط القتل؛ لأنه لحقٍ عام، وهذا هو الذي جعل العلماء يشددون في بعض الحقوق، حتى قال الإصطخري من أصحاب الشافعية رحمهم الله: إن من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وتكرر منه احتقارهم وأذيتهم أمام أهل السنة، انتقاصاً وازدراءً بهم؛ شرع قتله، وأنه لو عفا السلطان فلا يقبل عفوه، وكل هذا تعظيماً لحرمات الدين؛ لأنه إذا طعن في الصحابة فمعناه أنهم طعنوا في الدين، وقالوا: لأننا لا نعلم عفو الصحابي عن ذلك؛ لأنه ميت.
وكل هذه الأحكام التعزيرية المغلظة قصد بها ردع الناس وزجرهم، وتحقيق ما شرع القضاة من أجله، وهو تعظيم حرمات الله عز وجل وكف الناس عنها.