حكم عقد الصفقات التجارية في المسجد وذكر حقوق المساجد

Q مما ابتلي به البعض الكلام في الدنيا في المساجد، حتى إن بعضهم يعقد صفقات البيع والشراء في بيوت الله تعالى، فما هو توجيهكم لنا ولهم؟

صلى الله عليه وسلم على المسلم أن يتقي الله عز وجل في بيوت الله، وأن يحفظ وصية الله في كتاب الله، فإن الله عز وجل وصى عباده المؤمنين أن يرفعوا بيوته فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]، فمن يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه أن يحفظ حرمة المسجد، ولذلك لما رأى عمر رضي الله عنه من جلس في المسجد وتحدث في أمور الدنيا قال رضي الله عنه: (يا هذا! إن هذا سوق الآخرة، فإذا أردت سوق الدنيا فاخرج إلى البقيع)، وقد كان بجوار البقيع مكان يتبايعون فيه، أي: اخرج إلى ذلك المحل إذا أردت أن تتكلم في الدنيا، أما هنا فإنها سوق الآخرة.

فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل في بيوت الله، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم البيع في المسجد، وأن للمسجد حرمة، ولا يجوز أن تنتهك هذه الحرمة بالبيع والشراء داخل المسجد، أو إضاعة الأوقات في أحاديث الدنيا، ويجوز أن يتحدث الإنسان بحديث الدنيا داخل المسجد في حدود، ولكن لا يتوسع؛ ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (أنه كان يصلي الفجر فيجلس فيحيط به الصحابة، فيتحدثون بما كانوا يفعلونه في الجاهلية، فيضحكون ويتبسم)، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ولكن هذا بقدر وفي حدود، ما لم يصل إلى درجة تنتهك فيها حرمة المسجد، أو يكون الذين يجلسون في هذه الحلق يؤثرون على حلق هي آكد وأولى، مثل حلق العلم ونحو ذلك، فنوصي هؤلاء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يخافوا الله سبحانه وتعالى برعاية هذه الحرمة لبيوت الله عز وجل، وأن يحرصوا على استنفاد الوقت في ذكر الله عز وجل.

ويتصور الإنسان وهو داخل المسجد، خاصة إذا كان مسجداً مفضلاً كمسجد الكعبة أو مسجد المدينة، حينما يدخل يتصور أنه إما أن يخرج فائزاً بتجارته، أو يخرج -والعياذ بالله- خاسراً، يتصور أنه دخل منافساً لغيره راجياً رحمة ربه، وكأن لسان حاله يقول: اللهم لا تجعلني أشقى هؤلاء، وكلما دخلت مسجداً ينكسر قلبك لله عز وجل، وقل: يا رب! لا تجعلني محروماً، يا رب! لا تمنعني خير ما عندك بشر ما عندي، كأن لسان حالك يخاف أن تسقط مكانتك عند الله سبحانه وتعالى، فإن المحروم من حرم، وليس بين الله وبين عباده حسب ولا نسب ولا واسطة؛ بل إنه سبحانه وتعالى السميع المجيب الحسيب الرقيب الذي أعطى كل ذي حق حقه فضلاً منه سبحانه وكرماً، فإذا جئت تنظر كأنك في امتحان، فتحرص على أن تري الله منك خيراً، فتتمنى أن تكون أسبق الناس إلى الصف الأول، وأسبق الناس إلى عمارة هذا الجزء من الأرض المستحق للعبادة، أن تعمره بذكر الله عز وجل.

وقد كان المعتكفون من طلاب العلم والمبرزين هم الذين يجلسون في الصفوف الأول، أما الذي إذا جلس في الصفوف الأول مد رجليه، فيضحك مع هذا ويمزح مع هذا؛ صار قدوة سيئة، وشَانَ المكان الذي يجلس فيه، ولكن إذا جلس خاشعاً متخشعاً متذللاً لربه، متضرعاً؛ كسر القلوب، إذ من الناس من يدعو بسمته ودله قبل أن يتكلم، وهو رحمة لمن نظر إليه يتذكر إذا رآه الآخرة، ويتذكر حرمات الدين، ويتذكر حرمة المكان الذي يصلي فيه.

ولقد كنا في صغر السن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم نرى بعض المعتكفين، ووالله! إلى الآن لا زلت أرى بعض العباد الصالحين الأخيار الذين كانوا يعتكفون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، كنت أراهم في محافظتهم وأدبهم وخشوعهم وسمتهم ودلهم ولا تزال صورهم منقوشة في قلبي إلى الآن، وكلما أردت أن أعتكف التمست تلك النماذج العجيبة الكريمة، فالرجل منهم يخرج حريصاً على الصمت، حريصاً على ذكر الله عز وجل، لسانه يلهج بذكر الله، وأقسم بالله أن الرجل يخرج كأنك ترى الشمس في وجهه من نور العبادة، هذه هي النماذج الكريمة.

والرجل إذا جلس في المسجد وراعى حرمة المسجد يكون قدوة لأولاده، ويكون قدوة لأبناء المسلمين، فإذا رأى أبناء المسلمين كبارهم يحرصون على الأدب في بيوت الله؛ حفظوا حرمة المساجد، وحفظوا هيبتها، وحفظوا مكانتها، والعكس بالعكس.

وكذلك أيضاً ينبغي للإنسان أن يستشعر -إذا دخل المسجد- أنه أسعد الناس عند الله عز وجل حظاً وقدراً إذا خشع قلبه، وأناب إلى الله بالذكر والشكر، ولربما دخل إلى المسجد سابقاً لغيره، ففتح الله عليه باب رحمة لا يعذب بعدها أبداً، فربما تسبق إلى فريضة من فرائض الله في بيت من بيوت الله عز وجل فيغفر الله لك ذنوباً لم يخيل إليك أنها تغفر، وما يدريك ففضل الله عظيم؛ فرب عبدٍ تقطر دمعة من عينه فتغفر بها ذنوب عمره، وامرأة بغي -زانية- تسقي كلباً شربة ماء فتغفر ذنوب العمر، فالرب كريم، فهذه سوق الآخرة، سوق الذكر والشكر.

وأيضاً: مما يعين على ذلك استشعار حرمة المسجد، فإذا كان يستشعر حرمة المسجد في الدخول والخروج، ويقول: ماذا أخذت من هذا المسجد؟ فإذا جاء يخرج ووجد أن وقته كله ضاع في القيل والقال والترهات والكلمات الضائعات التي لا يجني منها خيراً، فضلاً عن الغيبة والنميمة -والعياذ بالله- إذا كان قد وقع فيها؛ فإنه يبكي على نفسه ويندب حظه عند ربه، فعلى الإنسان أن يستشعر هذه الأمور المهمة والأصول التي لا يمكن أن يصلح حاله إلا بمراعاتها، فإن المساجد أمرها عظيم، وحرمتها عظيمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من سمعتموه ينشد ضالته في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا)، تعظيماً لحرمة المسجد، وعلينا دائماً أن نحرص على الأسباب التي تعين على كسب الوقت في المسجد: وأولها: أن الإنسان إذا دخل لهج لسانه بذكر الله عز وجل، ولذلك شرع له أن يسمي الله، وأن يصلي على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأن يدعو ربه عند دخول المسجد أن يفتح له أبواب رحمته، فما معنى هذا؟ معناه: أنه يتخوض في رحمات الله عز وجل، ولذلك قلّ أن تدخل مسجداً وأنت بحضور قلب وخشوع إلا خرجت برحمة أو رحمات -وجرب هذا- ففي المساجد حِلق الذكْر، ولذلك كم من مجلس ذكر قمت منه وقد غيرت حالك، وأصلحت ما بينك وبين الله فأصلح الله مآلك، وكم من مجلس ذكر جلسته في المسجد، وكم من خطبة حضرتها يوم الجمعة فغيرت حياتك، وكم من كلمات طيبات من إمام ناصح بعد فريضة من فرائض الله دخلت إلى القلوب فأصلحت ما بينها وبين الله وما بينها وبين عباد الله، فهنا تنزل الرحمات، وهنا تغفر الذنوب والسيئات، وهنا ترفع الدرجات، وهنا كان يسر الصالحون، هنا كان الشخص المؤمن تضيق به الدنيا فإذا دخل أبواب المسجد تولت عنه الهموم والغموم كلها، كان المسلمون يوم كانوا إذا دخلوا بيوت الله نسوا الدنيا وما فيها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، وصف الله أهلها: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37]، كان الرجل إذا دخل المسجد نسي همومه، حتى لربما كان مكروباً في أهله وماله وولده فينسى كربه كله إذا وطئت قدمه بيت الله عز وجل، من البركات والخيرات التي جعلها الله في هذه المنازل منازل الرحمات.

تقول وأنت تدخل باب المسجد: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وأنت داخل باب المسجد، ومعنى ذلك: أن هذا المسجد محل الرحمة، وليست رحمة واحدة، وذلك أنك عندما تقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فأبواب الرحمة كثيرة: باب العلم، باب العمل.

ولربما تدخل المسجد فترى رجلاً يخشع في قراءته للقرآن فتتعلم الخشوع في صلاتك، ولربما ترى رجلاً ساجداً يطيل السجود فتغار على نفسك وتندب حظك وتتمنى أنك مثله، فتخرج برحمة، وهي طاعة من الطاعات، أو خير أو بر أو عمل صالح، فهذه كلها من الفضائل التي جعلها الله في بيوته، ولكن على المسلم أن يبحث عن الأسباب التي تهيؤه لهذه الفضائل، والنظر للقدوة الكاملة.

والنقطة الأخيرة: أن مما ضر الناس اليوم وحرمهم من كثير من خيرات المساجد: الغرور، فإن الإنسان ربما دخل المسجد وكأنه يظن أنه أفضل من في المسجد، وما من رجل يدخل مسجداً أو منزلاً ويرى نفسه أعلى القوم إلا وقد وضعه الله أدناهم، والعكس: وما من إنسان يدخل إلى مكان ويرى أنه أحقر القوم وأنقص القوم إلا رفع الله قدره، وكمّل نقصه وجبر كسره، قال بعض السلف: والله ما جلست مجلساً أرى نفسي أعلى القوم إلا خرجت وأنا أدناهم، ولا جلست مجلساً أرى نفسي أدنى القوم إلا خرجت وأنا أعلاهم.

فإذا دخلت المسجد فادخل وأنت تستشعر أنك أفقر الناس إلى رحمة الله، وأولى الناس بالانكسار، وأحق من ينكسر بين يدي الله، ولو كنت طالب علم، ولو كنت عالماً، ولو كنت من أصلح الناس، وقد كان العلماء والفضلاء على علو قدرهم ومكانتهم يتواضعون في بيوت الله عز وجل.

كان الوالد رحمه الله يقال له: نجعل لك كرسياً في المسجد؟ فيقول: هل أنا وحدي في المسجد؟! -رحمه الله برحمته الواسعة- ومن أنا حتى أعطى كرسياً أُفضَّلُ به على الناس في بيت الله عز وجل؟! وهذا من شدة ورعه رحمه الله، ومن شدة خوفه من أن يتعالى على الناس في المسجد، وقد كان العلماء والفضلاء والصالحون على هذا من السمت والدل في المحافظة على حرمات المسجد.

والوصية الأخيرة: نوصي كل من يحضر بيوت الله عز وجل أن ينزهها عما لا يليق، وأن يحرص على الكمالات؛ فإذا صلى بجوار أحد فيعلمه أو يتعلم منه، أو يذكره بالله عز وجل، ولو تسلم على أخيك وتقول له: يا أخي! أوصيك ونفسي بتقوى الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، أو تراه قد أخل بسنة أو طاعة فتذكره بها، وعندها تخرج برحمات وباقيات صالحات، وأجور ومكرمات.

جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل، وأحسن لنا ولكم العاقبة في الحياة والممات، إنه و

طور بواسطة نورين ميديا © 2015