ما يشترط في القاذف

قال رحمه الله: [إذا قذف المكلف محصناً].

هذه الجملة صدر بها رحمه الله مسائل القذف، وهي حكم الله عز وجل على من قذف المحصن -بدون بينة ولا دليل- أنه يجلد حد القذف.

وقوله رحمه الله: (إذا قذف المكلف) والمكلف: تقدم معنا أنه البالغ العاقل المختار، فلا بد أن يكون بالغاً، فلو أن صبياً قال لرجل: يا زانٍ، أنت زانٍ، فرماه بالزنا، أو رمى امرأة بالزنا، فقال لها: يا زانية، نظرنا؛ فمن حيث الأصل الصبي لا يقام عليه الحد؛ لأن الله عز وجل أسقط عنه المؤاخذة، فلا يؤاخذ بقوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم)، ولكن إذا كان هذا الصبي مميزاً، وقد بينا ضوابط التمييز من حيث السن ومن حيث المعرفة، فبعض العلماء يقول: المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب، لو قلت له: ماذا فعلت؟ أين أبوك؟ ماذا فعل فلان؟ كيف فلان؟ يفهم الخطاب الذي يوجه إليه، ويحسن الجواب، فهذا مميز بأقواله، فجعلوا التمييز ضابطه بالقول، ومن أهل العلم رحمهم الله من جعل التمييز من سبع سنوات، والحقيقة أن هذا يختلف من شخصٍ إلى آخر، فإذا كان الصبي مميزاً يعلم أن هذا الكلام لا يقال، وأن هذا الكلام اتهام بالجريمة، وأن هذا الكلام سوء وشر، بل بعض الصبيان يعلم أن القاذف تقام عليه العقوبة، وقد يحذره والداه من هذا، ويعلم عواقب هذا من حيث الأصل، فإذا تجرأ على هذا الكلام وكان مميزاً؛ فإنه يعزر ويؤدب، ولا يترك هملاً بل يعزر بما يناسب سنه، وهذا له أصل في السنة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فعزر في حق الله عز وجل، ولذلك يعزر الصبي ولا يقام عليه الحد، فنظراً لكونه غير مكلف؛ أسقط عنه الحد، ولكن لا تسقط عنه العقوبة لنوع التمييز الموجود فيه؛ لأنه لو لم يردع بها لاعتاد ذلك، واستشرى وقوي على الفساد، وكما يقوى على ترك حق الله عز وجل؛ يقوى على ترك حق المخلوق، وذلك بالتكرار، فينشأ على ذلك والعياذ بالله! فالأصل أنه ينبغي أن يكون بالغاً.

كذلك أن يكون عاقلاً، فلو أن مجنوناً سب رجلاً فقذفه، أو سب امرأة فقذفها؛ لم نقم عليه الحد؛ لأن المجنون لا يؤاخذ بقوله، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: المجنون حتى يفيق)؛ لأن المجنون لا يملك لسانه فلا وجه لمؤاخذته، فإنه لا يستطيع أن يتحكم في لسانه، ولا يستطيع أن يتحكم في قوله، ومن هنا لا يؤاخذ بما يقول، ولا يقام عليه حد القذف، ويختلف عن الصبي بالتفصيل الموجود في الصبي.

وأما بالنسبة للاختيار، وهو: ألا يكون مكرهاً، فلو أن شخصاً هدد شخصاً وقال له: إن لم تقذف فلاناً، أو إن لم تقذف فلانة وتتهمها بالزنا؛ سأقتلك، وتحققت فيه شروط الإكراه التي تقدمت معنا في طلاق المكره، وبينا الأمور المعتبرة لكي يحكم على الشخص بكونه مكرهاً، فأكره على أن يقذف غيره فقذفه، فإذا تبين إكراهه سقط عنه الحد، ولا يؤاخذ بقوله؛ لأن الله أسقط بالإكراه قول من تلفظ بالكفر، كما في قصة عمار بن ياسر رضي الله عنهما حينما تلفظ بالكفر وقلبه مطمئنٌ بالإيمان مكرهاً، فأنزل الله سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، قالوا: فإذا قذف مكرهاً وقلبه مطمئن لا يريد قوله، ولا يقصد قوله؛ لا يقام عليه الحد، ويعتبر الإكراه موجباً لاندراء الحد عنه، ومسقطاً للعقوبة.

وقوله: (إذا قذف المكلف محصناً)، المحصن هو: الحر المسلم العفيف العاقل الملتزم، وسنبين إن شاء الله ضوابط الإحصان، وهذه اللفظة تطلق في الشريعة على معان عديدة منها: الإسلام والزواج والنكاح والعفة والحرية، فتطلق على هذه الأمور كما سيأتي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015