مضمون الشهادة

قال المصنف رحمه الله: [بزناً واحد] دخل المصنف رحمه الله في مسألة مضمون الشهادة، فلابد أن يشهدوا بفعل زناً واحد لا متعدد، فلو قال اثنان: رأيناه يزني العصر بالأمس، وقال اثنان: رأيناه يزني الصبح، فحينئذٍ شهادة الصبح غير شهادة العصر، فإما أن تكمل بينة أحد الموضعين وإلا جلد الجميع؛ لأن الشهادة ليست بزناً واحد، قد يقول قائل: هذا زان لأنه لو جئنا بالشهادتين ولفقناهما فمعناه أنه زانٍ، نقول: هذا غير صحيح؛ لأن الله أمر أن يشهد أربعة بأنهم رءوه يزني بفعل واحد، وليس بفعل للزنا متعدد، فإذا شهدوا بفعل متعدد فلا تلفق الشهادة، وهذا يسميه العلماء: اتفاق مضمون الشهادة، وهي: أن يتفق مضمون الشهادة زماناً ومكاناً وصفة، والصفة تكون بأمور قد يضطر القاضي إلى الاستبيان منها.

لكن هنا مسألة وهي أن الأصل أن الشاهد لا يعنت، ولا يبالغ القاضي في التضييق عليه: كيف رأيته؟ وكيف كذا؟ ويدخل على الشاهد الأسئلة المحرجة؛ لأنه ربما التبس عليه الأمر، وأدخل عليه الغلط، وهذا معنى قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282]، وهذه المسألة فيها إشكال في بعض الجوانب عند الأئمة، وهي متى يحق للقاضي أن يتدخل في مضمون شهادة الشاهد فيسأله عن أمور، ويستوضح ويستبين، إبراءً للذمة وإحقاقاً للحق وصيانة للقضاء عن شهادة الزور والكذب؟ بعض العلماء يقول: من حقه أن يتدخل، وأعطوه صلاحية أكثر من غيرهم، ويقولون: نحن عندنا متهم، وعندنا مظلوم، حتى يثبت أنه ظالم وأنه مسيء، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بالتحري والضبط، فلابد أن نراعي جانب المشهود عليه، وبعضهم قال: إن الله تعالى نهانا عن أذية الشهود، وقال: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282] فلا ينبغي للقاضي أن يتدخل إلا في أحوال مخصوصة.

من حيث الأصل العام نفرق بين قضيتين، فنقول: الأصل أننا نطالب الشهود أن يبينوا شهادتهم على وجه تتفق به الحادثة، هذا شيء، ومن حق القاضي أن يعرف، هل شهدوا بحادثة واحدة أو متعددة؟ وأن يسأل عن بعض الأمور المهمة لإثبات الشهادة وإثبات الجريمة، يبقى الجانب الثاني الذي شدد فيه أصحاب القول الأول وقالوا: من حقه أن يشدد على الشهود حتى يثبت ويعلم على وجه يصون به القضاء عن شهادة الزور والكذب والخطأ، وبعض المحققين من العلماء يقول: من حقه أن يفعله عند الشك والريبة، فإذا شك وارتاب؛ فإن من حقه أن يتدخل وأن يراعي حال المشهود عليه، وهل يقدم حال المشهود عليه أو الشاهد؟ المنبغي العدل، وأن تكون الأمور على السنن، وإن كان عمر رضي الله عنه أُثر عنه أنه قدم حق المشهود عليه، ولكن هذا قد يكون خاصاً في قضية المغيرة بن شعبة، حينما شهد عليه أبو بكرة وشبل وزياد ومعبد بأنه زنى، فأُحظر الشهود، وشهد أبو بكرة وشبل وزياد ومعبد، ولما أتي بـ زياد قال له عمر رضي الله عنه -كما في الرواية-: ما وراءك يا أبا عفان؟! إني لأرجو ألا يُفضح صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد شهد أبو بكرة أولاً، فقال: ذهب ربعك يا مغيرة! ثم شهد الشاهد الثاني فقال: ذهب نصفك يا مغيرة! ثم شهد الشاهد الثالث فقال: ذهب ثلاثة أرباعك يا مغيرة! ثم رجا الله عز وجل ألا تتم الشهادة؛ لأن مغيرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت فراسته، فلم يأت الشاهد الرابع -وهو زياد - بمضمون الشهادة على السنن، ووصف وصفاً لم يثبت فيه الإيلاج، وقال: إنه رآه على صفة -سنذكر القصة إن شاء الله- ولم ير الإيلاج، فكبر عمر رضي الله عنه وحمد الله، قال بعض العلماء: إن عمر نبه الشاهد الرابع أن يرجع عن شهادته، تعظيماً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، واستشكله بعض العلماء وقالوا: كيف هذا فإنه في هذه الحالة سيجلد الثلاثة ويحكم بفسقهم؟ وأجيب بأن هذا أهون من قتله، فإنه إذا شُهد عليه وهو محصن؛ فسيقتل، قال بعض العلماء: إن عمر ورّى ولم يقل له: ارجع عن شهادتك، لكن جعل له الخيار أن يشهد أو يمتنع، والأصل يقتضي أنه يجب عليه أن يشهد، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: القضية على ما جرت عليه، وعمر رضي الله عنه لم يقصد التورية ولا التنبيه له، وإنما رجا الله عز وجل، وحقق الله رجاءه، وكان رضي الله عنه محدثاً ملهماً، فما يقول لشيء أُراه وأظنه إلا وافق الحق.

فالشاهد من هذا: أنه بالإمكان أن يدقق القاضي في الشهادة عند الشك والريبة، فإذا شك وارتاب؛ ففي هذه الحالة من حقه أن يدقق حتى ننصف المشهود عليه، خاصة إذا كان محصناً والأمر سيفضي إلى قتله ورجمه.

قال المصنف رحمه الله: [يصفه أربعة ممن تقبل شهادتهم فيه] يصف الزنا أربعة وصفاً خالياً من الاحتمال، خالياً من اللبس، والشريعة تراعي الأدب والكمالات والمروءة، ومن ذلك ألا يُتحدث صراحة بالأمور المستبشعة مما يحدث بين الرجل وامرأته، ومما يوصف به الفرج، ونحو ذلك، والله عز وجل يقول في كتابه: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]، {طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله يُكني، وهذا من أدب القرآن، حيث أن الله علم عباده الأدب، ولكن انظر إلى كمال هذه الشريعة ودقتها، فإذا جاءت الأحكام الشرعية والمسائل الشرعية، واحتاج العالم أو الفقيه أو القاضي أو المفتي أو المعلم أن يصرح بهذه الأشياء؛ فيأتي بها صريحة ولا يأتي بها محتملة؛ لأنه إذا جاء بها محتملة ربما ضاعت حقوق الناس، ولذلك لابد أن يسأله عن الجماع وعن الزنا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أدخل ذلك منك في ذلك منها؟)، (أنكتها؟) لا يكني صلوات الله وسلامه عليه، كل هذا حتى لا تذهب حقوق الناس، ولو كانت على الكنايات والاحتمالات لربما شهد الشاهد كناية حتى يخدع القاضي، ولذلك في هذا الموضع لابد من التصريح، وأن يقول: إنه رأى ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة وكالرِّشاء في البئر، ولا يشترط أن يقول: كالمرود في المكحلة وكالرشاء في البئر، فإذا قال: رأيت ذكره في فرجها والجاً أو داخلاً، فهذا يكفي، لكن بالنسبة للأصل كما جاء في قصة اليهوديين، أنه صلى الله عليه وسلم سأل ابن صوريا (ما الذي يجدونه في التوراة؟) فذكر أن فيها أن يشهد منا أربعة أنهم رءوا فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، وهذا يدل على حصول الدخول والإيلاج، وأنه لا يكفي أن يرى امرأة تضاجع رجلاً، أو يرى امرأة مع رجل متجردين، فهذا لا يكفي؛ لأنه ربما حصل التجرد ولا يحصل الإيلاج، ولربما كان بصفة دون الوطء، فإذاً لابد أن يصفوا الزنا.

ومن هنا قيل في قصة المغيرة رضي الله عنه أنه هو الذي أفحم الشاهد، وهذا قول من يقول: إن عمر لم يكنّ، وذلك أنه لما شهد الثلاثة وجاء الرابع، وأراد أن يصف قال له: يا أمير المؤمنين! سله أرآني مقبلاً أو مدبراً؟ يعني: رآني من جهة الأقدام أو من جهة الوجه، فقال: رأيته مدبراً، وهذا قيل في قضية شبل فقال: يا أمير المؤمنين! هي امرأتي وكنت أجامعها، فهذا من الأشياء التي يحصل بها التأكد من الزنا؛ لأنه ربما وطئ زوجته، وربما كان مجامعاً لأهله، وعلى هذا فإنه لا يستقيم أن تقبل الشهادة هكذا، يقول: فلان رأيناه يزني، بل لابد أن يصرح بالزنا، ويصفه وصفاً خالياً من الاحتمالات.

قال المصنف رحمه الله: [سواءً أتوا الحاكم جملة أو متفرقين] عندنا مسألتان: المسألة الأولى: إتيان الشهود، والمسألة الثانية: مجلس الحكم، فالقاضي إذا جلس في الصباح مجلساً واحداً وأتاه الأول: الساعة الثامنة، والثاني: الثامنة والنصف، والثالث: جاءه التاسعة، والرابع: جاءه العاشرة، فهذه شهادة واحدة في مجلس واحد، لكنهم أتوا متفرقين، فالتفرق مع اتحاد المجلس لا يضر؛ لأن هذا لا يشكل مع ما تقدم؛ لأن الشرط اتحاد المجلس، واتحاد المجلس تكون معه شهادة المتفرقين والمجتمعين، قالوا: الشهادة المتفرقة كقضية المغيرة، وشهادة المجتمعين هي الأصل، والله عز وجل لم يفرق بين الشهود متفرقين أو مجتمعين.

ولكن إذا جاءوا مجتمعين فإن أسئلة القاضي تنكشف أكثر مما لو فرقهم، فإذا جاءوا مجتمعين فللقاضي أن يفرقهم ويسأل كل واحد منهم على حدة، ويقول للأول مثلاً: متى وقع الزنا؟ قال: رأيته يزني في الصباح، فيقول: داخل المدينة أو خارج المدينة؟ قال: داخل المدينة، يقول: هل كانا متجردين أو على بعضهما بعض الثياب؟ صف ذلك، ويكون هذا الكلام بغيبة البقية، ثم يأذن للثاني ويسأله، ثم يأذن للثالث ويسأله، والرابع ويسأله، حتى يستبين من الشهادة؛ لأنه لو سألهم أمام بعضهم البعض لاتفقت كلمتهم، ولقن بعضهم بعضاً الجواب، فله إذا جاءوا مجتمعين أن يفرقهم للاستبيان والتأكد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015