Q فضيلة الشيخ! يقول السائل: يحتاج الوالدان إلى الولد كثيراً، خاصة أثناء العطلة، الأمر الذي قد يتعارض مع بعض الأنشطة، فما الحكم أثابكم الله؟
صلى الله عليه وسلم باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أوصيك أخي بوالديك خيراً، وأن تبدأ بوالديك بعد حق الله عز وجل، وإذا كنت تبحث في الأنشطة عن مرضاة الله، ومحبة الله، فاعلم أن محبة الله في رضا الولدين، وأن الله رضي عمّن رضي عنه والداه، فمن أرضى والديه أرضاه الله في الدنيا والآخرة، وليس هناك حق قرنه الله بحقه -ونبه عليه سبحانه وتعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بعد حقه وتوحيده- مثل حق الوالدين، فاتق الله في والديك، واعلم أن الله سيفتح عليك -إن كنت تطلب العلم- بفضله ثم برضا الوالدين، وأن الله سيبارك أنشطتك، وأمورك الخيرية بعد رضا والديك، كم من بار بوالديه بكت عيناه، وتفطَّر قلبه، وعظم حزنه، حينما كان مشغولاً في دراسته، وكان يتمنى أن يكون عند رجل أمه وأبيه، وكان يتمنى ساعات رضاً من والديه، وحيل بينه وبين ذلك بأمور قاهرة أثناء تعلمه وانشغاله.
هاهي العطلة سويعات ولحظات، وأيام وليال، فهل لك أن تشتري مرضاة الباري في رضا والديك، اجتهد في رضا الوالدين، وقدم والديك على الناس، الله أعلم كم قدمتك أمك على غيرك، وعلى نفسها، الله أعلم كم قدمك أبوك على نفسه وماله وأهله والناس أجمعين، فاتق الله في والديك.
وأحسن كما أحسن الله إليك، فإن وجود الوالدين نعمة عظيمة من الله عز وجل، هنيئاً لبارٍ لزم والديه فقام بحقهما وحقوقهما، وأدخل السرور عليهما حتى فاز بمرضاة الله، والأنشطة والأمور التي فيها إدخال سرور على الأصدقاء أو على الملتزمين أو على من يريد الخير، هذه أمور تكون تبعاً لرضا الوالدين، فإذا جاء الوالد أو الوالدة يطلبان أمراً، وأنت خارج لأي شيء فقل: سمعاً وطاعة، واعتذر من أصدقائك، قائلاً: أعتذر لأن عندي ظرفاً، قلها بشرف، وبرضا وافتخار وقوة؛ لأنك تعلم أنه ليس هناك أحد أوجب أن تطيعه بعد الله عز وجل من والديك، فاتق الله في والديك.
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد، وتركت أبواي يبكيان، قال: أتريد الجنة، قال: نعم، قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما، وأحسن صحبتهما ولك الجنة)، فهذا الذي أوصيك به أخي في الله! ودع عنك التأويلات، ودع عنك الاجتهادات والآراء، فوالله لن تفلح إلا برضا الله ثم برضا الوالدين، ولن توفق إلا برضا الله ثم برضا الوالدين، ولن تعان على أمرك إلا برضا الله ثم برضا الوالدين.
وكم من قابع عند قدم والديه، يقوم عليهما ويدخل السرور عليهما، حتى لربما مضت عليه أكثر أيام العطلة وهو في جهاده يبر والديه، ولم يفوِّت إلا أياماً معدودة لإخوانه وخلانه وأصحابه، بورك له في هذه الأيام، ما لم يبارك له في غيرها من أيام العطلة كلها، البركة في أمور الدعوة وأمور الخير، إذا نزعها الله منها فلا خير فيها، فابدأ بوالديك، ابدأ بمن أمرك الله ببرهما، الشاب يخرج إلى زيارة المسجد النبوي ويسافر الأيام، ووالدته مريضة، الشاب يخرج إلى مسافات شاسعة ويسافر إلى بلدان بعيدة، وأبوه في أشد الحاجة إليه، وقد يكون الوالد مريضاً، وقد تكون الوالدة مريضة، بل والله لو كانت لأبيك مصلحة -في بيع وشراء- وقبعت في دكانه ومتجره، تجاهد في بره ورضاه؛ ليفتحنَّ الله عليك إما عاجلاً أو آجلاً، ما ضر البر أحداً، فالبر مفتاح لكل خير (وإن البر ليهدي إلى الجنة)، ومن أعظم البر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى: بر الوالدين.
فيا رعاك الله! احرص كل الحرص على والديك واتق الله فيهما، واعلم أن الله أعطاك نعمة بقاء الوالدين أو أحدهما، فهما من أبواب الجنة، فليحرص على هذه الأبواب، حتى ينتهي به ذلك إلى حسن خيرٍ في صلاح وهدى وصواب.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يوفقنا لذلك، أوصي كل موفق أن يحس أنه أيام الشغل كان مقطوعاً عن بره لوالديه، فليحتسب العطل والإجازات في بر والديه، في ليس للمسلم عطلة وإجازة، وإنما هو أمر نسبي، فهذه فرصة يبتلي الله فيها الصادق.
بعض الناس أيام الدراسة يقول: لا أستطيع أن أقوم الليل؛ لأني إذا قمت الليل تعبت في النهار.
نقول له: الآن ما عندك شيء، فإذا تعود في أيام عطلته أن يقوم الليل، وداوم عليه، ثم شغل بدراسته ومرت عليه الشهور كلها، مشغول، كتب أجر القائم لليل، لأنه أظهر لله عز وجل أنه في فراغه لا يقصر في طاعة، يصوم الاثنين والخميس، لكن إذا جاءت أيام الدراسة لا يستطيع الصيام؛ لأن والده يمنعه شفقة عليه، فيبره، ومع ذلك إذا جاءت العطلة يصومها، فالعطلة والإجازة مدرسة للخير والصلاح والبر، مدرسة وفكر للإنسان فيها في تقديم الأهم فالمهم، أولاً بر الوالدين، ثم صلة الرحم، إذا لم تصل عمك وعمتك وخالك وخالتك، , وأقرباءك وتدخل السرور عليهم في العطلة، فمتى تصلهم؟ متى تأتيهم إذا لم تأتهم في الإجازات، ليست الإجازة هملاً، ولا عبثاً، فما خلق الله الخلق سداً، وما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، فالإنسان ينبغي عليه أن يتفكر وأن يتدبر أن الله أعطاه هذه الأيام امتحاناً، فإذا كنت في أيام العطلة تحرص على بر والديك، ورضاهما؛ فقد سعدت ونجحت وأفلحت، وحينئذ يجب على المربين والدعاة، والأفاضل الذين يقومون على أبناء المسلمين أن يكونوا خير عون لهم على ذلك.
وللأسف أن البعض يستهزئ من بعض الطلاب ويقول: اذهب واجلس عند أمك، فقل له: نعم أجلس عند أمي، وهذا شرف لي أن أجلس عند أمي قبل أن أراك أو أجلس معك.
هكذا بلغنا عن بعضهم، يقول: اذهب واجلس عند أمك! هل أصبح البار بوالديه محلاً للنقد والسخرية؟! هذا أمر عظيم.
قد يخرج الإنسان تاركاً والديه وهما غضبانان عليه، ولربما يرجع ولا يلقاهما أبداً، فيموتان وهو عاق لهما والعياذ بالله، فهو مسئول أمام الله عن ذلك.
الشاهد: أن يأتي إنسان إلى أمه يبلغها أنه سيسافر، فلا توافقه أمه في ذلك؛ شفقة عليه وخوفاً من أن يصيبه مكروه، هل تلام أمك لشفقتها عليك؟ يعقوب عليه السلام أبيضت عيناه من الحزن -وهو من أولي العزم من الرسل- على فراق ابنه، وهو يعلم أن ابنه سيعود إليه، ويشفق أن يرسل ولده للعب يقول: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13]، هو يعلم أنه نبي ولا يأكله ذئب، لكن هذا نوع من الشفقة، تذكرنا بشفقة الآباء على الأولاد، وتذكرنا بشفقة الأمهات على فلذات الأكباد، فهذا شيء لا يملكه أحد.
نبي مرسل عليه الصلاة والسلام، فضله الله عز وجل وشرفه، وقد أوتي من الصبر والقوة حتى أنه يقاتل كقتال الأربعين شدة وبأساً، وحين فقد ابنه دمعت عيناه، فقيل له: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (رحمة أسكنها الله في قلوب عباده) من هذا الذي يريد أن يدخل بين أم وفلذة كبدها، من هذا الذي يستطيع أن يقف بين يدي الله عز وجل وهو يربي أبناء المسلمين على العقوق، بل ربهم على المحبة والبر، وقل لهذا: قم لوالديك، واذهب إلى والديك وأدخل السرور عليهما، يجب أن تكون مجالسنا مع أبنائنا وإخواننا من طلبة العلم ومن كل من يلوذ بنا التربية على بر الوالدين ومحبتهما، والحرص على بر الولدين، ولو كنا في كل درس وفي كل محاضرة نؤكد هذا، والله ما ملت منه أذن يؤمن صاحبها بالله واليوم الآخر؛ لأنه يعلم أن هذا منهج القرآن وهذا منهج الكتاب والسنة.
فالله عز وجل في أكثر من موضع يقرن هذا بتوحيده، ومع ذلك يؤكد عليه ويقول: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] الشخص حينما يقرأ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] ثم بعد ذلك يعقبها ويقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، هل هذا كله لا يعقله الإنسان ولا يعيه، فنحن لا نربي لدعوة ولا خير ولا بر ولا ندعوا لمشاركة في دعوة وخير وبر، إلا بعد أن نرى باراً بوالديه، رضي عنه والداه، حتى إذا تكلم بارك الله في كلامه، وإذا دعا بارك الله في دعوته، وإذا نصح وفقه الله في نصحه وإرشاده أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا البر، وأن يعيذنا من العقوق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.