قال: [ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم]: قوله: (ودية المجوسي): هم عبدة النار، وهم وثنيون في الأصل ومشركون، ولذلك سوى الكتاب العزيز بينهم وبين أهل مكة فقال: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:1 - 5].
هذا مبني على أن الروم غزوا الفرس، وكان الفرس عبدة للنار، ففرح المشركون بانتصار المجوس على الروم، وحزن المسلمون؛ لأن بيننا وبين أهل الكتاب أصل مشترك وهو الإيمان بوجود الله عز وجل، وهم أهل دين سماوي ونحن أهل دين سماوي، فبيننا وبينهم قاسم مشترك من هذا الوجه، ففرح المشركون بانتصار الفرس على الروم كما أخبر الله عز وجل أنهم من بعد غلبهم سيغلبون، وأخبر أنه إذا غلبت الروم الفرس فرح المؤمنون بنصر الله، وجعل انتصار الروم على الفرس نصراً من الله عز وجل؛ لأنهم أهل دين سماوي، والذي له دين سماوي أفضل من الذي لا دين له، وأفضل من الملحد، وأفضل من المشرك من جهة أن له أصلاً، وهذه من ناحية أن الله عز وجل جعل لكل شيء قدراً، وهذه حكمة في الشريعة الإسلامية.
قال الله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5] مع أنهم كفار لكن وجد القاسم المشترك بيننا وبينهم، فأنت حينما ترى أهل الأديان السماوية مثل اليهود والنصارى تجد أن أديانهم في الأصل فيها قواسم مشتركة؛ وتجد اللاديني إباحي، يرى الإباحية ويرى -والعياذ بالله- الفواحش والمحرمات أنها مباحة وأنه لا دين ولا خلق ولا قيم ولا تقاليد، لكن تجد اليهودي والنصراني أرحم من هذا الذي لا دين عنده، وهذا من جهة الفارق النسبي وليس من كل وجه، ولذلك تبغض من وجه وترى أصلاً توالي فيه من وجه آخر.
ومن هنا جعل الله عز وجل المحبة والفرح مبني على أصل وهو وجود القاسم المشترك؛ لأن المشركين شمتوا بالمسلمين حينما غلبت الفرس الروم.
وبين الله تعالى أنه سيمكن الروم من الفرس، وجعل ذلك نصراً؛ لأن الروم لهم دين سماوي كما ذكرنا.
إذا ثبت هذا فالشريعة تفرق بين الاثنين، فإن المجوس عبدة النار، وهم وثنيون، والأصل يقتضي أن الوثني والملحد والمشرك دمه لا قيمة له، وليس له دية في أصل الشرع، هؤلاء الذين لا دين لهم لم تجعل الشريعة لهم دية في الأصل.
لكن لو دخل المجوسي إلى بلاد المسلمين بأمان -مستأمن- أو دخل كرسول عنده رسالة يريد أن يؤديها، ثم قتله مسلم خطأً فحينئذٍ يرد الإشكال؛ لأنه دخل إلى بلاد المسلمين وله أمان، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فلو أنه قُتل خطأً مثلاً في بلاد المسلمين فقضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووافقه على هذا طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدية؛ ثمانمائة درهم، وهذا القضاء لم يخالف فيه، ولذلك لم يرد شيء مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض هذا القضاء، فوجب العمل به، ومن هنا عمل بهذه السنة، وقال بها جمهور العلماء رحمة الله عليهم.
المجوسي إذا لم يكن له أمان وقتله مسلم خطأ، فهذا ليس له دية في الأصل، وإنما هذا القضاء وقع في الأحوال التي يكون له فيها ذمة وعهد بين المسلمين.
قال: [ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم]: هذا في أحوال الأمان، ومن أهل العلم من قال: يختص الحكم بالمجوسي، وأما من عداه من الوثنيين والملحدين فهؤلاء ليس لهم شيء، ولو أن شخصاً ارتد عن الإسلام واستهزأ بالدين أو سب الله والعياذ بالله ثم ركب سيارته وصدمه مسلم فقتله خطأً، إذا شهد عدول أنه قال كلمة الكفر وحكم بكفره، لا دية على قاتله ولا ضمان عليه؛ لأنه ليس له حرمة، وليس له دية، وهذا بإجماع العلماء أن المرتد إذا قتله المسلم خطأً لا دية له.
وهكذا إذا قتله عمداً، لكن الأصل أنه يرد إلى ولي الأمر، وهو الذي يستتيبه، كما سيأتينا إن شاء الله في أحكام الردة، لكن من حيث الأصل ليس لهذا عصمة عند الله وعند رسوله صلوات الله وسلامه عليه وعند المؤمنين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله).
مفهوم ذلك أنهم إذا لم يفعلوا ذلك سقطت عصمتهم فلا عصمة لهم، وإذا كان المقتول لا عصمة له فقد قدمنا أن الدية لا تثبت إلا لمعصومي الدم، وحينئذٍ يسقط اعتبارها.